97

وكانت رادوبيس في صباح ذلك اليوم مستسلمة إلى الديوان الوثير تحلم، كان يوما يتيه على الزمان بما ينبض فيه من أفراح العيد وبما يدخر لها من فوز عظيم، فأي سعادة وأي فرح؟! كان صدرها في ذلك اليوم كبركة من ماء مصفى معطر، تنبت على حفافيها الأزهار وتغني في جوها البلابل شادية نشوى .. فيا لدنيا الأفراح! ومتى تتلقى نبأ الفوز؟ .. حين الأصيل، حين تبدأ الشمس رحلتها إلى العالم الثاني ويشرع قلبها في رحلته إلى دنيا السعادة واستقبال الحبيب، فيا لساعة الأصيل! ساعة الأصيل هي ساعة الحبيب، حين يقبل عليها بقوامه الفارع وشبابه الغض، فيلف ذراعيه المفتولين حول خصرها الدقيق، يناجي اسمها العذب، يبشرها بالفوز فيقول انتهت الآلام، وتفرق الحكام ليحشدوا الجنود، فهنيئا لحبنا. آه ! ما أجمل الأصيل!

ولكن كيف تصدق أن هذا النهار ينقضي؟ .. لقد انتظرت عودة الرسول شهرا انطوى ثقيلا مرهقا، ولكنها تخال هذه الساعات المعدودات أشد وطأة وأكبر كلفة، على أنه قلق يخالط طمأنينة، وخوف يمازج سعادة .. وكأنما أرادت أن تتناسى الانتظار لتتغفل الزمن، فعطفت أفكارها إلى هنا وإلى هناك حتى عثرت في شرودها بالعاشق الجاثي في معبده .. في الحجرة الصيفية، بنامون بن بسار، ما أرقه وأخف ظله! كانت تساءلت مرة حيرى كيف تجزيه على ما أدى لها من خدمة جليلة، وقد طار على جناحي حمامة إلى أقصى الجنوب، وعاد بأسرع مما ذهب يحمله الشوق فيعبر به مشاق الطريق؟ .. بل همست مرة في ارتباك كيف تستطيع أن تتخلص منه؟ ولكنه علمها بقناعته أن من الحب حبا عجيبا لا يعرف الأثرة ولا التملك ولا الطمع، ويرضى بالأحلام والأوهام. فيا له من شاب حالم بعيد عن الدنيا! ولو أنه طمع في قبلة مثلا لما عرفت كيف تتحاماه، دون أن تمد له فمها، ولكنه لا يطمع في شيء، وكأنه يخشى لو لمسها أن يحترق بلهيب غامض، أو لعله لا يصدق أنها شيء يلمس ويقبل. إنه لا يرمقها بعين إنسان فلا يستطيع أن يراها من بني الإنسان، ويقنع بأن يحيا على بهائها كما يحيا نبات الأرض بالشمس السابحة في السموات.

وتنهدت وقالت: حقا إن الحب عالم عجيب، أما حبها فينبع متدفقا من صميم الحياة؛ فالقوة التي تجذبها إلى مولاها هي قوة الحياة الكاملة الرهيبة، وأما حب بنامون فيكاد أن ينقطع له عن أسباب الحياة، ويضل في آفاق سامية، لا يعلن عن أثر محسوس إلا في يده الماهرة، وأحيانا في لسانه المتلعثم الحار .. فيا له من حب يرق من ناحية فيصير طيفا من الأحلام، ويقوى من ناحية أخرى فيبث في الصخر الأصم حياة! .. فكيف تفكر في التخلص منه وهو لا يكلفها شيئا؟ فلتتركه في معبده آمنا، يصور في جدرانه الصامتة أجمل التهاويل التي تكتنف وجهها الجميل.

وعادت تهتف من أعماق صدرها: متى الأصيل؟ .. حقا لشيث لو ثبتت إلى جانبها لسلتها بثرثرتها وخبثها، ولكنها أبت إلا أن تذهب إلى آبو لمشاهدة عيد النيل.

يا ما أجمل الذكريات! ذكرت العيد الماضي، يوم اعتلت هودجها الفاخر وشقت به الحشد الكبير لترى فرعون الشاب، ولما وقعت عيناها عليه خفق قلبها وهي لا تدري، وأحست بدبيب الحب غريبا لطول عهدها بالجفاء، فحسبته قلقا غاضبا أو نفثة ساحر، ذاك اليوم الخالد حين خطف النسر صندلها، ولم يكد يبدأ اليوم الثاني حتى زارها فرعون؛ ومن ثم زار قلبها الحب وتغيرت حياتها وتغيرت الدنيا جميعا.

أما العام الثاني فها هي تقبع في قصرها، والدنيا تقصف وتلهو في الخارج، ولن يتاح لها الظهور إلا بحساب؛ فلم تبق رادوبيس الغانية الراقصة، ولكنها منذ عام وإلى الأبد قلب فرعون الخافق. وكانت أفكارها تضل هنا وهناك فلا تلبث أن تنجذب بعنف إلى موطن همها فتساءلت: ترى ماذا حدث في الاجتماع الخطير الذي قال مولاها إنه سيدعو إليه ليقرأ عليه الرسالة؟ .. هل التأم ولبى النداء وأدناها إلى أملها الفاتن؟ أواه! .. متى يأتي الأصيل؟

وملت الجلسة، فقامت تتمشى، ودلفت إلى النافذة المطلة على الحديقة تسرح الطرف في آفاقها المنفسحة. ولبثت ما لبثت حتى سمعت يدا مضطربة تطرق الباب، فالتفتت متضايقة برمة، فرأت جاريتها شيث تقتحم الباب مهرولة لاهثة زائغة البصر يعلو صدرها وينخفض، وكان وجهها شاحبا كأنما تقوم ساعتها من فراش مرض طويل، فوجب قلبها، وطالعها نذير شؤم، وسألتها في إشفاق: ما لك يا شيث؟

وهمت الجارية أن تتكلم، فغلبها البكاء، فجثت على ركبتيها أمام مولاتها، وشبكت يديها على صدرها، وأفحمت في البكاء بحالة عصبية شديدة، فاستولى الانزعاج على رادوبيس وصاحت بها: ما لك يا شيث؟ .. بالله تكلمي، ولا تتركيني فريسة الحيرة؛ فإن لي آمالا أخاف عليها الوساوس.

فتنهدت المرأة تنهدا عميقا، وشهقت شهقة عنيفة، ثم قالت بصوت باك: مولاتي .. مولاتي .. إنهم هائجون ثائرون! - من الهائجون الثائرون؟ - الناس يا مولاتي .. إنهم يصرخون في غضب جنوني، مزقت الأرباب ألسنتهم.

فخفق قلبها مفزوعا وقالت بصوت متهدج: ماذا يقولون يا شيث؟ - آه يا مولاتي ! .. إنهم قوم مجانين تهذي ألسنتهم المسمومة هذيانا مخيفا.

Página desconocida