فتبدى الجد على وجهه وقال: إذن احترقنا معا.
لم تحس بهذه السعادة من قبل، ولم تعهد قلبها في مثل هذه اليقظة والحياة، ولم تشعر بلذة الاستسلام إلا أمام هذا الإنسان البديع، فقد صدق، إنها تحترق، ولكنها لم تقل شيئا، وقنعت بأن رفعت إليه عينين ناطقتين يجري فيهما الصفاء والمودة .. ثم قالت: لم يدر بخلدي أنك تعود هذه الليلة. - ولا دار لي بخلد، ولكنني رأيت الاجتماع ثقيلا مرهقا، وأعياني تركيز فكري، واستخفني الجزع، وعرض علي الرجل مراسيم كثيرة، فأمضيت عددا يسيرا، وأصغيت إليه بعقل مشتت، ثم ضقت بكل شيء ذرعا، فقلت له إلى الغد، ولم أكن أفكر في العودة، ولكني رغبت في أن أخلو بنفسي للحديث والمناجاة .. فلما خلوت إلى نفسي وجدت الوحدة ثقيلة، والليل موحشا لا يحتمل. هنالك لمت نفسي قائلا: لماذا أصبر إلى الغد؟ .. وليس من عادتي أن أقاوم عاطفة، فما عتمت أن وجدتني ها هنا بين يديك.
يا لها من عادة سعيدة .. إنها تجني أشهى ثمارها، وتحس جواره بفرح عجيب، وكان يضطرب حياة ونشوة، وقال: رادوبيس .. ما أجمل هذا الاسم! فإن له وقع الموسيقى في أذني ومعنى الحب في قلبي. وهذا الحب شيء عجيب، كيف يصرع رجلا تعمر لياليه الحسان من كل لون وطعم؟ .. إنه حقا عجيب، ترى ما هو هذا الحب؟ إنه قلق معذب يسكن في قلبي، وأنشودة إلهية ترتل في أسمى مكان من روحي. إنه حنين موجع، إنه أنت. أنت حالة في كل آية من آيات الدنيا والنفس، انظري إلى هيكلي هذا الشديد، إنه يشعر بالحاجة إليك شعور الغريق بالحاجة إلى التنفس والهواء.
إنها تبادله هذا الشعور، وتحس بصدقه؛ فقد تكلم ليصف قلبا، فوصف قلبين، إنها تسمع مثله الأنشودة الإلهية، وتشاهد صورته في آيات الدنيا والنفس، وكان جفناها يثقلان بالأحلام والنشوة، فما عتم أن تماست أهدابهما، فسألها برقة: لماذا لا تتكلمين يا رادوبيس؟
وفتحت عينيها الجميلتين، ونظرت إليه بوجد وحنان، وقالت: ما حاجتي إلى الكلام يا مولاي؟ فطالما كان الكلام يتدفق على لساني، وقلبي ميت، أما الآن، فقلبي يبعث حيا، ويمتص كلامك كما تمتص الأرض حرارة الشمس، وتحيا بها.
فابتسم إليها سعيدا، وقال: اختطفني هذا الحب من وسط دنيا عامرة بالنساء.
فقالت وهي تبادله الابتسام: واختطفني من وسط دنيا عامرة بالرجال. - كنت أتخبط في دنياي كالحائر، وأنت مني على بعد ذراع، وا أسفاه! .. كان ينبغي أن أعرفك من أعوام. - كان كلانا ينتظر النسر ليسفر بيننا.
فشد على قبضة يده بحماس، وقال: نعم يا رادوبيس، كانت الأقدار تنتظر ظهور النسر بأفقنا لتسطر في لوحها أجمل قصة حب، وما أشك في أنه كبر على النسر أن يؤخر حبنا لأجل بعيد، وما ينبغي لنا بعد اليوم أن نفترق؛ فأجمل ما في الدنيا أن نرى معا.
فتنهدت من أعماق قلبها، وقالت: نعم يا مولاي، فلا ينبغي أن نفترق بعد اليوم، وهاك صدري حقلا ناضرا ارتع فيه أنى شئت.
فبسط كفها بين يديه، وضغط عليها بحنو، وقال: تعالي إلي يا رادوبيس، ليغلق هذا القصر على الماضي الغادر؛ فإني أحس بأن كل يوم ضاع من حياتي قبل أن أعرفك طعنة غادرة صوبت إلى سعادتي.
Página desconocida