وارتاحت الغانية لما فعلت، وقالت إن هذا ليس وقتهم؛ فهي لا تستطيع أن تجمع شتيت أفكارها لتصغي إلى إنسان، ولا أن تحصر خواطرها في حديث فضلا عن أن ترقص أو تغني .. فليذهبوا جميعا .. وخشيت أن تعود شيث بتوسلات القوم، فقامت من السرير وهرولت إلى الحمام.
وتساءلت في وحدتها: ترى هل يرسل فرعون في طلبها هذا المساء؟ آه! أهي لهذا تضطرب وتقلق؟ أهي تخشى؟ كلا .. إن هذا الحسن الذي لم تحظ بمثله امرأة من قبل حقيق بأن يملأها ثقة بنفسها لا حد لها، وإنها لكذلك .. ولن يقاوم جمالها إنسان، ولن يذل حسنها لمخلوق ، ولو كان فرعون نفسه، ولكن لماذا إذن هي مضطربة قلقة؟ لقد عاودها ذاك الشعور الغريب الذي تلبسها مساء الأمس، والذي نبض بقلبها أول ما نبض حين وقع بصرها على الملك الشاب الواقف على ظهر عجلته كالتمثال. يا عجبا! .. أتراها حائرة لأنها حيال لغز غامض؟! واسم جبار هائل؟! ورب معبود؟! أترى أنها تود لو تراه في نشوة البشر بعد أن رأته في جلال الآلهة؟! أتراها قلقة لأنها تريد أن تطمئن إلى قوتها بإزاء هذا الحصن المنيع؟!
وطرقت شيث باب الحمام، وقالت إن السيد عانن أرسل معها كتابا إلى مولاتها، فغضبت الغانية، وقالت بعنف: مزقيه إربا، وخشيت الجارية أن تثير غضب مولاتها عليها، فذهبت تتعثر في الارتباك. وغادرت رادوبيس الحمام إلى مخدعها في أجمل صورة وأكمل هيئة، وتناولت الطعام وشربت كأسا مترعة من خمر مريوط. ولم تكد تطمئن إلى الديوان حتى دخلت عليها شيث مهرولة بلا استئذان، فتلقتها بنظرة تحذير ووعيد، وقالت الجارية في خوف: في البهو رجل غريب يلح في مقابلتك.
فاستولى الغضب على الغانية، وصاحت بها: هل أصابك مس من الجنون يا شيث؟ أتحالفين أولئك القوم المزعجين علي؟!
فقالت الجارية وهي تلهث: صبرا يا مولاتي .. لقد دفعت الزوار جميعا، أما هذا الرجل فغريب لم تره عيناي من قبل .. التقيت به بغتة في الردهة المؤدية إلى البهو، ولا أدري من أين أتى .. وحاولت أن أعترض سبيله، ولكنه سار بغير مبالاة، وأمرني أن أبلغك رجاءه.
فسهمت الغانية إلى الجارية هنيهة، وسألتها باهتمام: هل هو من ضباط الحرس الفرعوني؟ - كلا يا سيدتي .. إنه لا يرتدي زي الضباط .. وقد سألته أن يعلن لي عن شخصيته، فهز منكبيه باستخفاف، فأكدت له أنك لا تقابلين أحدا اليوم .. ولكنه استهان بكلامي، وأمرني أن أوذنك بانتظاره .. أواه يا مولاتي! .. إني أحرص على رضاك، ولكني لم أجد وسيلة إلى دفع هذا الثقيل الجريء.
وتساءلت: أيكون هو رسول الملك؟ وخفق قلبها لهذه الفكرة خفقة شديدة ارتج لها صدرها .. وجرت إلى المرآة، وألقت على صورتها نظرة فاحصة، ثم دارت دورة كاملة على أطراف أصابعها ووجهها ثابت في المرآة، وسألت الجارية: ماذا ترين يا شيث؟
فقالت الجارية، وهي تدهش لتبدل حال مولاتها: أرى رادوبيس يا مولاتي!
وغادرت الغانية المخدع، تاركة جاريتها في دهشتها وحيرتها، وانتقلت كالحمامة من حجرة إلى حجرة، ثم هبطت أدراج السلم المفروشة بفاخر السجاد، وتريثت قليلا عند مدخل البهو .. رأت رجلا يوليها ظهره، ووجهه إلى جدار البهو يطالع شعرا لرامون حتب .. ترى من هو؟ كان في مثل طول طاهو ولكنه أميل إلى النحافة والدقة، عريض المنكبين، جميل الساقين، على ظهره وشاح مرصع بالجواهر يصل ما بين منكبيه ومنطقة وزرته، وعلى رأسه قلنسوة جميلة ذات شكل هرمي لا تشبه قلنسوات الكهنة، ترى من يكون؟ إنه لا يشعر بها لأنها تتقدم بخفة على سجاد غليظ .. ولما صارت منه على قيد خطوات قالت بصوت خفيض: سيدي.
فالتفت الرجل الغريب إليها.
Página desconocida