ودارت حول البركة نصف دورة كاملة، فصارت أمام الحجرة الصيفية، ووجدت في استقبالها جماعة من الجواري انحنين لها إجلالا، ثم وقفن ينتظرن أوامرها، وأسلمت الغانية نفسها إلى أريكة مظللة تستريح .. ولم يطل بها المقام فانتفضت واقفة، وقالت لجواريها: كم ضايقتني أنفاس القوم الحارة .. وكم أرهقني الحر .. اخلعن ثيابي؛ فقد تقت إلى مياه البركة الباردة.
فدنت الجارية الأولى من سيدتها، ورفعت بخفة خمارها الموشى بالذهب نسيج منف الخالدة.
ثم تقدمت اثنتان فخلعتا العباءة الحريرية، فكشفتا عن قميص شفاف انحسر عما فوق النهدين وما تحت الركبتين، ثم تبعتهما جاريتان فسحبتا بيدين رقيقتين القميص السعيد، وروعتا الدنيا بجسد طليق، خلقته الآلهة جميعا، وادعاه كل لقدرته وفنه!
واقتربت جارية أخرى وحلت عقدة شعرها الفاحم، فانساب على جسدها، وغشاه من الجيد إلى الرسغين، وانحنت على قدميها وخلعت صندلها الذهبي ووضعته على حافة البركة. ومشت الغانية تتهادى، وهبطت درجات البركة المرمرية على مهل، ومضى الماء يغمر القدمين، فالساقين، فالفخذين، ثم ألقت بجسمها في الماء الهادئ يأخذ منه عطرا ويعطيه بردا وسلاما. واستسلمت لمداعبة الماء في رخاوة، ولعبت فيه ما شاء لها الهوى والمرح، وسبحت طويلا تارة على بطنها، وتارة على ظهرها، وثالثة على أحد جانبيها.
وما كانت لتعير شيئا اهتماما لولا أن صك أذنيها صراخ فزع يرسله جواريها، فتوقفت عن السباحة، والتفتت إليهن، فراعها أن رأت نسرا هائلا يحلق من علو قريب من شاطئ البركة، ويرف بجناحيه، ففرت من بين شفتيها صرخة فزع، وغاصت في الماء تنتفض فزعا ورعبا، وتصبرت بجهد جهيد، وحبست أنفاسها طويلا حتى أحست بالاختناق، ونفدت قدرتها فرفعت رأسها في خوف وحذر، ونظرت فيما حولها وهي تخشى، فلم تر شيئا، فنظرت إلى السماء فوجدت النسر يولي بعيدا يوشك أن يلج باب الأفق، فسبحت إلى الشاطئ على عجل، وصعدت الأدراج مسرعة مضطربة، ووضعت قدمها في إحدى زوجي صندلها، ولكنها لم تجد الأخرى، وبحثت عنها طويلا ثم سألت: أين الأخرى؟
فأجابها الجواري في قلق: خطفها النسر!
وتبدى الأسف على وجهها، ولكنها لم تجد متسعا من الوقت لإعلان سخطها، فدلفت إلى الحجرة الصيفية، والجواري من حولها وبين يديها يجففن جسدها الغض، تنحدر عليه نقط الماء كأنها لؤلؤ ينتشر على أديم عاج. •••
ولدى الغروب تأهبت لاستقبال الضيوف، وما أكثرهم في أيام العيد التي تجذب الناس إلى الجنوب من كل صوب! فارتدت أجمل ثيابها، وازينت بأفخر حليها، ثم تركت المرآة إلى بهو الاستقبال، تنتظر القادمين وقد آن موعدهم.
وكان البهو آية من آيات الفن والعمارة، بناه المعمار هني، وجعل صورته على هيئة بيضاوية، وشيد جدرانه من الجرانيت كبيوت الأرباب، وكساه بطبقة من الصوان ذات ألوان تسر الناظرين، وكان سقفه مقببا تزينه الصور والتهاويل، وتتدلى منه المصابيح المكفتة بالذهب والفضة.
وزخرف الجدران المثال هنفر، وتنافس العشاق في تأثيثه بإهداء المقاعد الوثيرة والدواوين الفاخرة، والرياش الجميلة. وكان عرش الغانية أبدع هذه التحف جميعا؛ فهو من العاج الثمين على قوائم من سن الفيل، وقاعدته من الذهب الخالص المحلى بالزمرد والياقوت، وقد أهداه إياها حاكم جزيرة بيجة.
Página desconocida