الرد على الزنديق ابن المقفع اللعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق كل معبود، المستوجب للحمد في كل موجود، الذي لا يقصر عنه بالحمد من رشيد خلقه حامد، الصمد الذي ليس من ورائه غاية يصمدها صامد.
دليل من استدل بالحقائق، فيما فطر سبحانه من مختلف الخلائق، التي يوجد من اختلافها، وما خالف بينه من أصنافها، ما يوجد من اختلاف الظلم والأنوار، وفرقة ما بين الليل والنهار، بل أكثر في الفرقة بيانا، وأوضح في التباين فرقانا، لتفاوت ما فيها من اختلاف الألوان والطعوم، ولضروب ما فيها من كل محسوس ومعلوم، دلالة منه سبحانه بمتفاوتها، ومختلف ما بين حالاتها، على الأول الأحد، السابق لكل عدد، الذي لا يكون ثان إلا من بعده، ولا يثبت الثاني إلا من بعد عده، البعيد من مساواة الأنداد، المتعالي عن مناواة الأضداد.
نحمده على ما هدانا إليه، ودل برحمته من توحيده عليه، ونسأله أن يصلي على ملائكته المصطفين، وعلى جميع رسله والنبيين، وأن يخص محمدا في ذلك من صلواته، بأفضل ما خص به أهل كراماته، ونستعينه لا شريك له على شكر نعمته، فيما وهب لنا من أبوة محمد عليه السلام وولادته، والحمد لله رب العالمين، ونعوذ به من عماية العمين.
Página 133
[الرد على ماني]
ثم إن فرقة من الكفرة قادها عصيانها، ونعق بقادتها في الكفر والعمى شيطانها، إمهامها المقدم، وسيدها المعظم، (ماني) الكافر بأنعم الله اللعين، الذي لم يبلغ كفره قط بالله الشياطين، ابتدع من القول زورا لم يسبقه إليه سابق من الأولين، ولم يقل به قبله قط أحد من قدماء الخالين، مع افتراق مللهم، ومختلف سبلهم، فزعم أن الأشياء كلها شيئان، وقد يوجد خلاف زعمه بالعيان، فلا يوجد بين ما ذكر من النور والظلمة فرقة، إلا وجدت الأشياء كلها بمثله لهما مفارقة، إلا أن الفرقة بين الأشياء أوجد، ومن الأشياء للنور والظلمة أوكد، مكابرة لعقول أطفال الأنام، وتجاهلا بما تجهله بهيمة الأنعام.
ثم قال تحكما، وافترى زعما، أن الأشياء كلها من النور والظلمة مزاج، وأنه لم يكن بينهما فيما خلا من دهرهما امتزاج، سفها من القول وتعبثا، ومجانة في السفه وخبثا، فثبت بينهما شبه الاستواء، وحكم عليها حكم السواء، في حالين يجمعانهما عنده معا، وفعالين يتساويان فيهما جميعا، فقال في أولاهما لم يمتزجا، ثم قال في أخراهما امتزجا، فجمعهما - عنده في الامتزاج وخلافه - الحالان، واشتراكهما فيما كان من إسآءة وإحسان، وليس في أنهما هما الأصلان، دليل واضح به يثبتان، أكثر من تحكم العماة في الدعوى، والاعتساف منهم فيهما للعشوى، وما ذا يرون قولهم، لو عارضهم مبطل في الدعوى كهم.
فقال: بل النور والظلمة مزاجان، ومن ورائهما فلهما أصلان، هل يوجد من ذلك لهم، إلا ما يوجد لمن خالفهم ؟!
Página 134
فإن قالوا: الدليل على ذلك نفع النور، فربما ضرنا النور في أكثر حوادث الأمور، ولما يوجد من نفع قليل غيره، أنفع مما يوجد من أكثر كثيره، لتمرة أنفع في الغذاء لأكلها، من الأنوار في الغذاء كلها، ولئن كانت الدلالة من الدآل على المنكر ضرا، يعود عندهم شرا، إن النور لأدل على طلبات الأشرار، وأكشف لهم عن خفيات ما يبغون من الأسرار، التي عنها تجلى نورهم، وبه كثرت في الضر شرورهم.
وإن كان دليل عماة الظلمة، على ما بينوه أصلا في الظلمة، ضر الظلمة في بعض أمورها، لربما منعت كثيرا من الشرور بستورها، فلم يجد لمنعها بسواتر ظلامها، الأثمة سبيلا إلى تناول آثامها، ولسنا نجد عيانا نورهم من المضآر معرى، ولا ظلامهم في جميع الأحوال مضرا، إلا أن يكون نورهم عندهم غير النور المعقول، فيصيروا بعد إثبات أصلين إلى إثبات أصول، ويحكموا على غائب لا يرى، بحكم لا يتيقن ولا يمترى، يتبين به عند أنفسهم قصرة عماهم، ويصح لهم بله غيرهم فيه خطاهم.
ثم يقال لهم أيضا: حدثونا عن نور الشمس، وما يباشر أبصار المبصرين منه عند شروقه باللمس، أليس نافعافي نفسه، وعند مباشرة لمسه ؟!
فإن قالوا: بلى، وكلما تلألأ؛ لأنه يتلألأ فيشرق وينير، وكذا الأمر به كل نور إما قليل وإما كثير.
قيل: فما باله يعشي أبصار الناظرين ويؤذيها ؟! وما بال بعض الحيوان لا تبصر مع ضوء الشمس وتلاليها ؟!
فإن قالوا: لعلة أن النور إذا أشرق على ناظر الانسان، وغيره مما يبصرمع ضوء الشمس من الحيوان، رد مع شروقه ما في النواظر، من الظلمة إلى الناظر، فلم ير فيه، ولم يطق النظر إليه.
قيل: فالظلمة في قولهم تستر، فكيف مع مكانها في الناظر تبصر، وقد ترى الأبصار، إذا أشرقت الأنوار، تبصر حينئذ الأشياء، وترى الظلمة والضياء، فلو كانت الظلمة لها سترة، لما أبصرت ما ترونها له مبصرة.
Página 135
فإن قالوا: الحرارة هي التي فعلت ذلك بالأبصار؛ لأن النور من شأنه دفعها إلى ما هي فيه من محجر القرار.
قيل: فالحرارة عندكم يا هؤلاء من شأنها الإحراق، وقد يرى الناظر يديم النظر إلى شروق الشمس فلا يحرق ناظره الإشراق! وقد يزعمون أن الحرارة في الظلمة أوكد، وفي سوسها وكونها أوجد، ثم يديم الناظر إليها نظره، فلا يعشيه ولا يحرق بصره! فأي دليل أدل على تلعبهم، وأوضح برهانا على سفه مذهبهم ؟! من هذا عند من ذاق من المعارف ذوقا، وعقل بين مفترقات الأشياء فروقا!!.
وأخرى يا هؤلاء فافهموها، تدل فيها على غير الأوهام التي توهموها، أن الشديد الرمد يجد في الظلمة راحة وفترة، وأنه يجد في النور عند مقاربته له مضرة منكرة، فلا نرى الظلمة إلا تفعل خيرا، ولا النور إلا يفعل شرا كبيرا.
وهذا فقد يبين أيضا بوجه آخر، يدل على خلاف ما قالوا في الخير والشر.
وهو أن يقال لهم في الماء، إذ زعموا أنه مزاج من النور والظلماء: ما بال قليله ينفع وكثيره يضر ؟!
فإن قالوا من قبل أن المزاج يقل ويكثر.
قيل: فما بال كثير نوره، في الكثير من بحوره، لا يمنع ضر كثير ظلمته، كما منع قليل نفعه قليل مضرته ؟!
أم تزعمون أن قليل النور أقوى من كثيره، فهذا من القول هو المحال بعينه، أن يكون قليل من شيء هو أقوى من كثير، كان منيرا أو غير منير!
ومما - أيضا - يدخل عليهم، أن يقال إن شاء الله لهم: حدثونا يا هؤلاء عن الثور ما باله يفر عن الحر إذا أحرقه إلى البرد والضلال، ويفر من البرد إذا آذاه إلى الصلاء والنار، وهما في زعمكم جميعا ظلمة مضرة، ليس لأحد فيهما منفعة ولا مسرة! ولن يخلو عندكم أن يكونا من سوسه فينفعاه، أو مما زعمتم من خلافه فيضراه ؟!
فإن قلتم بما فيهما من مزاج النور انتفع ؟
قيل لكم: فإلى أيهما فر ونزع ؟!
فإن قالوا: إلى أكثرهما نورا، وأقلهما من المزاج شرورا.
Página 136
قيل: لئن كان من الشر إلى الخير صار بفراره، لقد أدركه الشر منهما في مقره وقراره، وإن ذلك لما لا ينمي أبدا، ولا يكون حيث كان إلا ضدا.
ثم يقال لهم: هل الظلمة مضآدة للنور ؟
فإن قالوا نعم.
قيل: أبمثل ما يعقل من تضآد الأمور ؟
فإن قالوا: نعم.
قيل: إن الضد لا يجامع أبدا ضدا، إلا أفناه فكان له عند المجامعة مفسدا، ولا تكون المضآدة من الشيئين واقعة، إلا لم تجمعها بعد تضآدهما جامعة، إلا مع بطلان موجود أعيانهما، أو تبدلهما باجتماعهما عن معهود شأنهما، كبطلان الثلج والنار عند اعتلاجهما، أو كتبدل اللونين أو الطعمين في امتزاجهما.
فكيف يصح لما زعموا من الأصلين الاجتماع ؟! أو يوجد منهما بعد المزاج إضرار أو انتفاع ؟! وهما لا يكونان إلا متنافرين، أو مزاجا فيكونا متغيرين، كتغير الممتزجات عند مزاجها إلى فعال واحد، يجده منها بدرك الحوآس أو بعضها كل واحد.
لا كما قال ( ماني ) المكابر لدرك حسه، المخالف فيما قال ليقين نفسه، المتلعب في مذهبه، السفيه بمتلعبه.
وهذا أيضا يكذب قولهم، أن يقال لهم: حدثونا ممن موجود الضحك والبكاء ؟
فإن قالوا: هما من الظلماء. لم يصح أن يكونا وهما متضآدان من واحد غير متضآد. وكذلك إن قالوا من النور لم يصح أن يكونا منه وهو واحد غير ذي تضآد.
وكذلك الجوع والشبع، والصبر والجزع، والفرح والحزن، والجرأة والجبن، وهذا كله، وفرعه وأصله، عندهم شر مذموم، وفي كل حال مقبح ملوم؛ لأنه قد يضحك ويبكي، ويصح في هذا الدار ويشتكي، ويجوع ويشبع، ويصبر ويجزع، ويفرح ويحزن، ويجترئ ويجبن، من يكون ذلك كله منه عندهم في بعض الحال شرا، فكفى بهذا لمن أنصف الحق من نفسه منهم معتبرا.
Página 137
فهذا أصل قول ( ماني )النجس الرجيس، الذي لم يسبق قوله فيه قول إبليس، ولم يعب على الله بمثله قط عات، ولم يقصر بمعتقده عن غايات الضلالات، وعلى هذا - من قوله، وما وصفنا فيه من أصوله - مات ماني لعنه الله لعنا كثيرا، وزاده إلى ناره سعيرا.
Página 138
[الرد على بن المقفع]
ثم خلف من بعد ماني أبي الحيرة والهلكات، خلف سوء استخلفه إبليس على ما خلف ماني من الضلالات، يسمى ابن المقفع، لعنه الله بكل مرأى ومسمع، فورث عن ماني في كفره ميراثه، وحاز عن أبيه ماني فيه تراثه، فعقد بعنقه من ضلالاته أرباقها، وشد على نفسه من هلكاته أطواقها، فنشأ في الغواية منشأه، وافترى على الله ورسله إفترآءه، فوضع كتابا أعجمي البيان، حكم فيه لنفسه بكل زور وبهتان، فقال من عيب المرسلين، وافترى الكذب على رب العالمين، بما تقوم له ذوائب الرؤوس، وتضطرب لوحشته أركان النفوس، ووصل إلينا في ذلك كتابه، وما جمحت به فيه من الإفك ألعابه.
فرأينا في الحق أن نضع نقضه، بعد أن وضعنا من قول ماني بعضه، إذ كان ماني العمي له فيما قال من الضلال إماما، فأما النقض على ماني فسنضع له إن شاء الله كتابا تآما .
زعم ابن المقفع اللعين عماية وفرطا، أنه لا يرى من الأشياء كلها إلا مزاجا مختلطا. كذلك زعم النور والظلمة، اللذان هما عنده الجهل والحكمة .
فاعرفوا إن شاء الله هذا من أصله، فإنا إنما وضعناه لنكشف به عن جهله، وبالله نستعين في كل حال، كانت منا في قول أو فعال .
كان أول ما افتتح به كتابه، ما أكذب به نفسه وأصحابه، أن قال:
بسم النور الرحمن الرحيم
فإن كان النور هو الذي فعل اسمه(فلا اسم له، وإن لم يكن فعل اسمه فمن فعله، فإن هم ثبتوا له اسما غيره لم يكن إلا مفعولا ، وإن كان هو اسمه )كانت أسمآؤه ممن سماه فضولا، والفضول عندهم من كل شيء فمذمومة، وأسماؤه إذا كلها شرور ملومة، فهل يبلغ هذا من القول، إلا كل أحمق أو مخبول.
وقال: الرحمن الرحيم، فلمن زعم ألنفسه أم للأصل الذميم ؟! فإن كان عنده رحمانا رحيما، لمن لم يزل عنده شرا مليما، إن هذا لهو أجل الجهل، والرضى عما ذم من الأصل، وإن كان إنما هو رحيم رحمان، لما هو من نفسه إحسان، فهذا أحول المحال، وأخبث متناقض الأقوال.
Página 139
ثم قال: أما بعد: فتعالى النور الملك العظيم، فليت شعري أي تعال يثبت لمن هو في أسفل التخوم!! ومن هو مختلط عنده بكل مذموم، من الأنتان القذرة، والبول والعذرة، وبكل ظلمة هائلة، وأوساخ سائلة، مرتبط في الأسافل، مزلزل فيها بأمواج الزلازل، لا يطيب منها نتنا، ولا يعيد قبيحا حسنا، ولا هائلا أنسا، ولا سائل بول يبسا.
أي ملك لمن لا يملك إلا نفسه وحدها ؟! ولا يستطيع رشدا إلا رشدها! ولا يتخلص من مرتبط عدو! ولا يقدر على النجاة من سو! وأي عظمة تحق لمناوئ ضده بالمباشرة ؟! ولم يعل عدوه بغلبة - له عن مباشرته - قاهرة، ومن فرقته المناوآة أعضاء ؟! ومزقته المحاربة أجزاء ؟! ومن حطه حربه من أعالي العلى ؟! إلى بطون الأرض السفلى ؟!!
ثم قال زعم: الذي بعظمته وحكمته ونوره عرفه أولياؤه. فليت شعري أنور أولئك عنده أم ظلمة ؟! فإن كانوا نورا فهم أجزاؤه، أو ظلمة فتلك - زعم - أعداؤه، فهو الذي لا ولي له في قوله، ولم يؤمن عليه الفناء بعد زواله، عما كان معهودا من حاله، ومع ما صار إليه من انتقاله، عن دار أودآئه، إلى دار أعدائه .
فيا ويل ابن المقفع، أي مشسع عن الحق شسع، وأي متطوح من الضلالة تطوح، وإلى أي طحية من العماية تروح.
Página 140
فافهموا أيها السامعون عجيب أنبائه، وتدبروا من قوله معيب أهوائه، إذ زعم أن بعظمة نوره، وحكمة ما ذكر من زوره، كانت أولياؤه - زعم - عارفة، كأنه يثبت أنها كانت به جاهلة، ومع تثبيت هذا من القول في أموره، ثبت عمى الجهل والشر في نوره، ثم نسب عظمة إلى عظيم، وثبت حكمة لحكيم، فأضاف نورا إلى منير، ولا يخلوذلك من أن يكون قليلا من كثير، فيكون كثير ذلك أفضل من قليله، فيكون مقصرا بالقليل عن الكثير وتفضيله، والتقصير نقص والنقص عنده شر من شروره، والشر - زعم - لا يكون أبدا في نوره. فاسمعوا لقول التناقض، وزور حجج التداحض، ففي واحدة مما عددنا، وأصغر ما من قوله أفسدنا، كفاية نور كافية، وأشفية من الضلالة شافية، لمن أنصف فاعتبر، واعتبر فادكر.
فإن زعم أن عظمته ونوره وحكمته هن هو، زال عنه بزواله عنهن إذ هواهن الارتفاع والعلو، إلا أن يزعموا أنه ليس في الأرض للنور عظمة، ولا في دار هذه الدنيا من حكمه حكمة، فيكون هذا ترك قولهم كله، والخروج من معهود فرعهم فيه وأصله.
ثم قال زعم: والذي اضطرت عظمته أعداءه، الجاهلين له، والعامين عنه، إلى تعظيمه - كما زعم - لا يجد الأعمى بدا مع قلة نصيبه من النهار أن يسميه نهارا مضيئا.
Página 141
وجهله بما بين العامين والعمين من الفرق في اللسان، أوقعه بحيث وقع من جهله بمخارج القرآن، والعامي فإنما هو ما نسب إلى أعوام الزمان، والعمي فإنما هو أحد العميان، فكيف ويله مع جهله لهذا ومثله، يقدم على تعنيف وحي كتاب الله ومنزله، الذي نزله على رسله، سبحان الله ما يبلغ العمى بأهله!! فثبت العظمة من نوره جزءا، وجعلها من أعضائه عضوا، ونسب إليها بعد فعلا، زالت به عن عدو النور جهلا، ورفعت به عن العمين - زعم - عماهم، والعمون فلا يكونون عنده إلا ظلماهم، فلا نرى عظمتهم عندهم، وإن كابروا في ذلك جهدهم، إلا وقد أولت الظلمة خيرا كثيرا، وأحدثت للجهل والعمى تغييرا، وهو يزعم في قوله، أنه لا تغير في شيء من أصوله، والأعمى فلم ينكر قط نهارا، ولم يستصغر نهاره احتقارا، ولم يعارضه به جهل، ولم يكن له عما فيه تبدل، وأعداء نوره به - زعم - جاهلة، وعن مذهبه فيه ضآلة مضلة، فكيف يصح تمثيله لهم بالأعمى ؟ إن هذا لصمم من ابن المقفع وعمى!!
ثم قال: ومسبح ومقدس النور. النور الذي - زعم - من جهله لم يعرف شيئا غيره، ومن شك فيه - زعم - لم يستيقن بشيء بعده.
فاسمعوا في هذا القول من أعاجيبه! وما استحوذ عليه فيه من ألاعيبه!! قال ومسبح فمن تأويله مسبحه، إذ ليس إلا هو وعدوه الذي لا يسبحه، فإن كان إنما يسبح نفسه، فإنما يسبح جنس جنسه، فما في ذلك له من المدح! وما يحق بهذا من مسبح وغير مسبح، وإن كان إنما سبحه جزء من أجزائه، فإنما سبح الجزء نفسه وغيره نظيره من أكفائه، وقد يحق له يا هؤلاء على الأكفاء، من تسبيحه ما يحق لها عليه بالسواء، وهو مسبح ومسبح، ومادح وممتدح، فليس له من مسبحه إلا ما عليه مثله من تسبيحه، ولا له من مادحه إلا ما عليه من مديحه، وكل هذا أعجب عجيب! وقول متناقض وتكذيب!!
Página 142
قال: ومقدس وإنما مقدس مفعل ومعناه فمبرك، فمن يبركه وهو عنده يبرك ولا يبرك، وليس معه إلا عدوه، الذي لا سو إلا سوه، فنفسه تبركه، فقد كان إذا ولا بركة له. فسبحان الله ما أفحش خطاهم! وأبين جهلهم وعماهم !!
فإن قال قائل منهم فبهذا فقد قلتم، وقد يدخل لهم عليكم ما أدخلتم!!
قلنا أما مسبح فنقولها، وأما مقدس فأنت تقولها، ونحن لا من طريق ما كفرت، فقد نقولها في النور الذي ذكرت، لأن الله تبارك وتعالى بارك فيه، وفطره من البركة على ما فطره عليه، فينفع بقدره، في بعض أمره، فدل بذلك على بركته، وإحسان ولي فطرته، ولكنا نقول في الله: الملك القدوس كما قال، إذ كان كل شيء فبقدسه نال من قدس البركة ما نال .
ومسبح فقد نقولها، إذ نجدها له ونعقلها، من كل ما هو سواه مفطورا، ظلمة كان ذلك أو نورا، فأما هذيان التعبث، وقول التناقض والتنكث، فهو بحمد الله مالا نقول، مما لا يقارب قول أهل العقول، فأما قوله: الذي من جهله لم يعرف شيئا غيره، فافهموا فيه هذيانه وهذره، فلعمر أبيه، ولعمر مغويه، لقد يعرف - الطب والصناعات، وأنواع ما تفرق فيه الناس من البياعات - من لا يعرف نوره، ولا يتوهم أموره، يعرف ذلك يقينا من نفسه ابن المقفع، ويرى منه بيانا بكل مرأى ومسمع، كم ترون من طبيب طلب منه ابن المقفع الدواء ؟! أو موصل من العوام أوصل إليه سراء أو ضراء ؟! توقن نفسه أن طبيبه يداويه، وأنه لا ينجع فيه بغير يقين تداويه.
وكذلك من أوصل إلى ابن المقفع ضرآءه فقد يعلم أنها غير سرآئه، أو أوصل إليه سرآءه فقد يوقن بتا أنها غير ضرآئه، وهذا من تكذيبه فيما قال فأتم موجود، كثير بين الناس في كل ساعة معهود، لا يشك في يقينه أهل الطب والصنائع، ولا العآمة فيما تدبر من المضآر بينها والمنافع، وكلهم لا يوقن بشيء مما زعم في نوره، بل يزعم أن الجهل في كل ما هو عليه من أموره .
Página 143
ثم ابن المقفع فقد يعلم بتا يقينا، أن الناس لا يثبتون لشيطانه فعلا ولا عينا، فأي أمر أعمه عمها ؟! أو ضلالة أقل شبها ؟! من ضلالة دخلت بأهلها، في مثل هذا السبيل من جهلها ! فنعوذ بالله من خزي الأضاليل، ونعتصم به من لهو الأباطيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا طيبا مباركا فيه .
وأما ما بعد هذا من حشو كتابه، فإنا قصرنا - لضعفه - عن جوابه. ثم قال وتلعب في بعض كلامه، وجوز ما حكم به لنفسه من أحكامه: فقد يبصر المبصرون - زعم - أن من الأمور محمودا، وأن منها مذموما. فقال منها ولم يقل كلها، وسقط عنه بعضها وفضلها، وإذا كان لأيها كان بعض وكل، كان لكلها يقينا على بعضها فضل، وإذا ثبت بين النور التفاضل، ثبت لبعضه على بعض فضائل، وإذا كان النور فاضلا ومفضولا، فقد عاد النور بعد أصل أصولا، إذ الفاضل والمفضول اثنان، والفضل والنقص منهما شيئان، والفاضل فخير حالا، والمفضول أسفل سفالا، فكل جزأين من أجزائه، فهما خير من جزو، وكل عضو من أعضائه، فهو في الشر كعضو، وهما إذا اجتمعا، خير منهما إذا انقطعا، فمرة فيهما خير عند الاجتماع، ومرة فغيرهما خير منهما عند الانقطاع.
وكذلك أيضا فقد يدخل عليهم في الظلمة وتفاضلها، ما يصيرهم إلى أن شر البعض منهما أقل من شر كلها، إذ شر كلها أكثر من شر بعضها، وإذ الشر من أقلها ليس هو أكثر من شر كلها، فالنور في نفسه واسمه شر ضرار، ونافع شرار، وذلك أنه يقل والقلة عنده شر فيعود نوره ضرا، ويقصر عن قدر مبلغ كماله والتقصير عنده ضر فيعود ضرا، والظلمة فخير عندهم وشر، ونفع وضر، إذ قليلها مقصر في الشر، عن مبلغ كثيرها في مواقعه من الضر، وبعضها كذلك مع كلها، فرعها فيه ليس كأصلها.
Página 144
فأي عدوان أعدى ؟! أو طريقة أقل هدى ؟! مما تسمع من أمورهم أيها السامع، فلتنفعك في بيان قبائحه المنافع، وأيا ما - ويله - رأى من الأشياء، من كل ظلمة أو ضياء، يحمد أو يذم في الناس دائبا، وليس في الحمد والذم عندهم متقلبا، ألم ير أن الظلمة ربما نفعت فحمدت، وذلك إذ استترت الأبرار بها عن ظلم الظالمين فسلمت، وطلبت فيها وبها، البردفأدركته في طلبها، فهذا منها نفع ظاهر في دنيا ودين، يراه بينا من أمرها كل ذي عين وقلب رصين، ثم تعود منافعها مضآرا، إذا أعطت هذا منها أشرارا، وكذلك أحوال النور، في جميع ما يرى من الأمور، ربما نفع فيها، ثم عاد بالضر عليها، وقد ذكرنا من ذلك في صدر كتابنا طرفا، فيه لمن أنصف في النظر ما كفى.
وقال في كتابه زعم لبعض من دعاه: إن الذي دعاه إليه رجاؤه فيه للهدى. فمن ياوله رجا، الظلمة التي لا ترجا، ولا يكون منها أبدا إلا الأذى، ولا يفارقها أبدا عنده العمى ؟ أم النور الذي لا يخشى ولا يعمى ؟! ولا يكون منه أبدا عنده إلا الرضى ؟! بل ليت - ويله - شعري، فلا يشك- زعم - ولا يمتري، من الذي يدعوه إلى الإحسان من الإسآء ؟! ومن الذي ينادي به إلى الصواب عن الخطأ ؟! أهو النور الذي لا يسي ؟! والمصيب الذي لا يخطي ؟! فلا حاجة له إلى دعائه وندائه، وهو لا يسيء أبدا فيكون كأعدائه، أم المسيء الذي لا يحسن ؟! والمخطئ الذي يشتم ويلعن ؟! كان يا ويله إليه دعاؤه، وبه كان ندآؤه، فأنى يجيبه وليس بمجيب ؟! وأنى يصيب من ليس أبدا بمصيب ؟!
Página 145
إن ابن المقفع ليكابر يقين علم نفسه، وإن به لطائفا من لمم الشيطان ومسه، بل مثل ابن المقفع يقينا، وما مثله الله به تبينا، ما ذكر الله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه، حيث يقول: { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } [الأعراف :179]. يقول الله سبحانه: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعلمون } [الأعراف :180] . ثم قال سبحانه: { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [الأعراف: 181]. فلعمر الحق وأهله، ما وفق ابن المقفع فيه لعدله، ألم يسمع ويله، قول الله لا شريك له: { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون، من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون } [الأعراف : 185- 186]. فيا ويل ابن المقفع لقد أداه عتهه وعماه في الأمور، إلى أجهل الجهل فيما وصف من الظلمة والنور، وليس علته فيما أحسب من ضلاله، ولا علة من تبعه عليه من جهاله، إلا قلة علمهم بما شرع الله به دينه ونزل به كتابه من الحكمة، لاعن شبهة دخلت عليه ولا عليهم فيما وصفوا من النور والظلمة، فلما - عموا عن حكمالله في ذلك ورسله، وما حكم به فيه سبحانه من أحكام عدله، ورأوا فيه ما ظنوه تناقضا، ورأوا كل أهل ادعائه فيه متباغضا، ولم يلجأوا إلى الله في جهله باستسلام، ولا عصمهم فيه من صالح عمل بعروة اعتصام، ولم يلقوا - فيما اشتبه منه - من جعلهم الله معدنه، فيكشفوا لهم الأغطية عن محكم نوره، ويظهروا لهم الأخفية من مشتبه أموره، الذين جعلهم الله الأمناء عليها، ومن عليهم بأن جعلهم الأئمة فيها، ولم يجدوا عند علماء هذه العامة فيما اشتبه عليهم منه شفاء، ولم يرجوا منهم في مسألة لو كانت لهم عنه اكتفاء - ازدادوا بذلك إلى حيرتهم فيه حيرة، ولم تفدهم أقوال العلماء فيه بصيرة، حتى بلغني والله المستعان - من تهافت الضعفاء في هذا المذهب العمي، لما رأوا من جهل علماء هذه العامة بما فيه لأهله من الدعاوي ما دعاني إلى وضع أقواله، والكشف عما كشف الله عنه من ضلاله، وإن كان عندنا قديما لحمقه وضعفه، لمما لا أحسب بأحد حاجة إلى كشفه، حتى بلغني عن الحمقى منه انتشار، وتتابعت بانتشاره علي أخبار، ورفعت إلينا منه مسائل عن ابن المقفع، لم آمن أن يكون بمثلها اختدع في مذهبه كل مختدع، فرأيت من الحق علينا جوابها، وقطع ما وصل به من باطله أسبابها، فلينصف فيها، من نظر إليها، وليحكم - فيما يسمع منها نقائضها - حكم الحق، فإنه أعدل الحكم وأرضاه عند من يعقل من الخلق، وما ألف من مسائله هذه وجمع، فهو ما أوقعه من الضلال بحيث وقع، فذكر فيها النور والظلمة تلعبا، وتلعب بذكرهما فيهما كذبا.
فافهموا عنا جواب مسائله، فإن فيه إن شاء الله قطع حبائله، التي لا تصيد صوائدها، ولا تكيد له كوائدها، إلا حمقان الرجال، وموقان الأنذال، كان أول ما بدأ منها، وقال به متحكما عنها: إن سألناك يا هذا فما أنت قائل: أتقول كان الله وحده ولم يكن شيء غيره.
فاعرفوا يا هؤلاء فضول قوله، فإنلم يكن شيء غيره هو من فضوله، التي كثر بها كتابه، وضلل بها أصحابه، ومسألته هذا مما كان جوابه فيه قديما، من كل من أثبت لله من خلقه توحيدا وتعظيما، وفي ذلك من كتب ضعفة الموحدين وعلمائهم، ما فيه اكتفاء لمن نظر في آرائهم، ففي كتبهم فانظروا، ومن نور قولهم فيه فاستنيروا، ففيها لعمري منه ما كفى، وصفوة هدى لمن اصطفى، ومع ذلك فسنجيب مسألته، ونقطع إن شاء الله علته .
Página 147
نعم وكذلك يقول في الله فليعقل قولنا فيه من سمعه، ممن لم يتبع ابن المقفع وممن تبعه، فقد يعلم كل أحد أن الواحد لا يكون واحدا، عند من أثبت له ندا وضدا، وأنه متى كان معه غيره، ضده كان ذلك أو نظيره، زال أن يكون معنى الواحد المعلوم ثابتا، ويعلم كل أحد أنه لا يكون ذو الأجزاء إلا أشتاتا، ولا تكون أبدا الأشتات إلا كثيرا، ولا تكون أجزاء إلا كان بعضها لبعض نظيرا.
أو ليس معلوما معروفا أن من وراء كل غاية غاية، حتى ينتهي المنتهي الذي ليس من ورائه غاية ولا نهاية، وأنه إن كان مع غاية غاية، أو بعد نهاية عند أحد نهاية، فلم تصر بعد إلى غاية الغايات، ولم ينته عقله إلى نهاية النهايات، وأنه يصير بالعظمة عند النظر من عظيم إلى عظيم، حتى يقفه النظر على غاية ليس وراءها مزيد في تعظيم.
وكذلك الأمر في كل معلوم أو مجهول، حتى ينتهي إلى الله الذي لا يدرك إلا بالعقول، فيجده كل عقل سليم، وفكر قلب حكيم، واحدا لا اثنين، وشيئا لا شيئين، عظيم ليس من ورائه عظيم، وعليم ليس فوقه عليم، ذلك الله الرحمن الرحيم، الواحد الأول القديم، القدوس الملك الحكيم، الذي لا تناويه الأعداء بمقاتلة، ولا تكافيه الأشياء بمماثلة، وهو الله الذي لم يلد ولم يولد، والصمد الذي ليس من ورائه مبتغى يصمد، غاية طلب الخيرات، ونهاية النهايات، وإذا صحح حجتنا في هذا صوابنا، فهو لمن سأل عن وحدانية الله جوابنا.
فأما ما ذكر بعد هذا من القيل، فحشو مسربل بهذيان الفضول، ليس له مرجوع نفع، ولا يحتاج له إلى دفع.
أرأيتم حين يقول: انقلب عليه خلقه الذين - زعم - هم عمل يديه، ودعاء كلمته، ونفخة روحه، فعادوه، وسبوه وآسفوه، وأنشأ تعالى يقاتل بعضهم في الأرض، ويحترس من بعضهم في السماء بمقاذفة النجوم، ويبعث لمقاتلتهم ملائكته وجنوده.
Página 148
فيا ويل ابن المقفع ما أكذب قيله! وأضل عن سبيل الحق سبيله!! متى قيل له - ويله - ما قال ؟! أو زعم له أن الأمر في الله كذا كان ؟! ومتى - ويله - قلنا له أن من قوتل هو من قذف بالقذف ؟! وأن الله في نفسه هو المحترس أف لقوله ثم أف!! بل الله هو المانع لأعدائه، من أن يصلوا من العلو إلى مقر أوليائه، تعريفا - بعدل حكمه، وفيما تعلم الملائكة من علمه - بين الشياطين العصاة، وبين الملائكة المصطفاة، ورحمة منه سبحانه للآدميين، وإقصآء عن علم السماء للشياطين، توكيدا به لحجته سبحانه وإحداثا، وإحياء به لموتى الجهالة وانبعاثا، وإكراما منه بذلك لنبيه، وصيانة منه لوحيه.
فمن أين - يا ويله - أنكر من هذا ما كان مستبانا ؟! وما يراه الناس في كل حال عيانا ؟! أو يقول إن ما يرى من هذا لم يزل، وأنه ليس بحادث كان بعد أن لم يكن، فأين كانت مردة قريش عن الرسول به ؟! ودلالتها للعرب فيه على كذبه، وهو يزعم لها أن ما رمي بها عند بعثته، وأن الرمي بها علم من أعلام نبوءته، فلو كانت عند قريش - على ما قال - حالها، لكثرت على الرسول فيه أقوالها، ولما أرادوا من شاهد أكبر بيانا من هذا في إكذابه، ولكن ابن المقفع يأبى في هذا وغيره إلا ما ألف من ألغابه.
Página 149
للعرب إذ أكثرها أهل ضواحي وبادية، وقريش فإذ كانت منازلها على جبال عالية، أحدث بالنجوم عهدا، وأشد في الكفر تمردا، من أن يكون أمرها على خلاف ما قال الرسول فيها، ثم لا يكذبونه فيما زعم من اختلاف حاليها، وإلا فالرسول كان في حكمته، وفيما كان له عليه السلام من فضيلة الصدق عند عشيرته، يتقول مثل هذا لعبا، أو يفتريه عندهم كذبا، بل ليت شعري ما أنكر ؟! ولم - ويله - نفر فاستكبر، من أن ترجم الشياطين على علم وحي الله ومنزله، كي لا تسبق به الشياطين إلى أوليائها قبل رسله، فينتشر علمه قبلها في الناس انتشارا، فيزداد مثله يومئذ له إنكارا، ويحكم له فيه ظنونه، ويزيد فتنة به مفتونه، فأيما من هذا أنكر في رحمة الله الرحيم، وفيما خص الله به رسله من التكريم .
فإن قال فما باله إذا أراد إنزاله ؟! لم يطوه حتى لا يناله، شيطان رجيم مريد، ولا مطيع رشيد ، إلا رسوله من بين خلقه وحده، فيكون هو الذي يبث رشده ؟!
Página 150
فليعلم أنه لم يصل إلى الأرض من الله حكمة في تنزيل، إلا كانت ملائكة الله أولى فيها بالتفضيل، لأنها صلوات الله عليها أطوع المطيعين وأعلمهم عن الله بحكم التنزيل، وأنها في ذلك متعبدة، وبه لله عز وجل ممجدة، وإنما تعبدها الله سبحانه بالعلم، وفضلها في العبادة للحكم، والتنزيل بعلم العلوم، وبحكمة كل محكوم، وجبلة الجن جبلة، للسمو إلى السماء محتملة، والجن فهم بفضل أهل السماء عالمون، وإلى علم ما عندهم من العلوم متطلعون، فإذا دارت في الملائكة حكمة وحي نزل فيها، أو عدل حكم حكم به في الأمور عليها، استرقت منه الجن ما سمعت في مشاهدها، وما ذكرت أنه لها هناك من مقاعدها. ألم تسمع قولها في ذلك، وخبرها عن مقاعدها هنالك، { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا، وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } [الجن: 8- 10].
وهذا يا هؤلاء فإنما كان منها، ونبأ الله به فيما أدى عنها، بعد أن قالت : { إنا سمعنا - في الأرض - قرآنا عجبا } [الجن:1]، ألا تسمعها تقول بعد: { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا }.
Página 151
وما ابن المقفع بمأمون، من أن يظن أن الحرس شرطيون، لما بلونا من جهله باللسان، وقلة علمه بمخارج القرآن. وإنما الحرس مثل على معنى الحفظ لها، بما جعل من الرجم دونها، فازدادت الجن بما وجدت هنالك، يقينا وإيمانا بذلك. فما ينكر من القذف بالشهب، وغيره ما فيه من التعجب ؟! هل ذلك ممن يقدر عليه، إلا كغيره مما هو فيه، وقد زيد به في هذا من من الجن اهتدى، وتجنب طرق الضلالة والردى، وكان فيه منع لتوكيد كذب الشياطين، ودفع عن الرسول لتصديق أقوال المكذبين، والله يقول لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله، في السورة نفسها، ومع ذكر الشياطين وحرسها، { قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا } [الجن: 25- 28].
وأما قوله في القتال: وأنزل ملائكته فإذا غلبوا عدوا قال: أنا غلبته، أو غلب له ولي، قال: أنا ابتليته.
فما أنكر ويله من أنا غلبته ؟! وقد قاتلت معه ملائكته، وقد قذف بالرعب في قلوبهم، وبث الرعب في مرعوبهم، وما ينكر من قتلهم - ويله - بالملائكة، وهل ذلك بهم إلا كغيره من كل هلكة، إلا أن ملائكة الله في ذلك متعبدة مثابة، وأنه منه جل ثناؤه بالملائكة لأعدائه معاقبة، وأنه لأوليائه عز ونصر، ولأعدائه ذل وكسر.
فإن قال:ألآ قتلهم بما هو أوحى !واجتاحهم بغير القتل اجتياحا !!
فهذا إن دخل علينا له دخل في الملائكة، دخل في غيره من كل هلكة، يقال في كل واحده بعينها، ألآ كان الأمر بغيرها ! وكل ما كان به كائن الهلكة، فهو أمره بالملائكة أو غير الملائكة.
Página 152
فإن قال: ألآ خلق الناس أبرارا ! ومنعهم أن يكونوا أشرارا ! فمسألة من سأل عن هذا محال، وليس لأحد علينا في هذا مقال، لأنه إنما يكون البر برا، ما فعله فاعله متخيرا، فأما ما جبر عليه صاحبه جبرا، فلا يكون منه خيرا ولا شرا.
وفيما قال:أن يكون الانسان إنسانا لا إنسانا، والاحسان إحسانا لا إحسانا، لأن الانسان لا يكون إنسان إلا وهو مملك مختار، والاحسان لا يكون إحسانا إلا ولم يحمل عليه اضطرار.
وأما قوله (في ظفر أعدائه، في بعض الحالات على أوليائه)، فليس ويله بموجود من قولنا صحيح، يعلمه كل أعجمي منا أو فصيح، أن أوليائه لم تغلب إلا بنصره، ولم تغلب إلا بمخالفتهم أو بعضهم لأمره، والدليل على ذلك أنه لما أمسك عنهم نصره لما كان من عصيانهم، كان ذلك هو بعينه سبب خذلانهم، وأنه من فقد سبب، ما به الغلبة غلب، وأنه غير مستنكر ذلك من فعال حكيم يملكه، أن يعصيه من أعطاه إياه فيمسكه، فيفقد فيه من نصره ما كان يجد، ويتغير الأمر به إذا عصى عما كان يعهد، فمتى نصر الله له وليا فبرحمته، أو تركه من النصر فبضرب من معصيته، وهذا من الأمر فلا يزول به عن قدير قدرة، ولا تفسد معه لحكيم حكمة، بل الحكمة معه قائمة موجودة، والأفعال فيه منه عدل محمودة . ألم تسمع حكيم الحكماء، وأقدر قادري العظماء، يقول في هذا من نصره وخذله، وقدرته سبحانه وعدله، { إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [آل عمران: 160] .
يخبر عن أنه متى حبس عنهم نصره، حل مع حبسه خذله، فمن لم يخذله سبحانه فأولئك هم المنصورون، ومن خذله فلم ينصره فأولئك هم المبتلون، فما في هذا مما ينكره عقل، أو يفسد فيه من الله فعل، سبحان الله ما أحق في من جهل هذا شبه البهائم ! التي مثلها جل ثناؤه بأهل الجرائم .
Página 153