فاستغفر الرجل ربه، فواصلت الحكيمة: سأسجله باعتباره واحدا.
فتنهد عم محسن، قائلا: سنصبح أحدوثة ونادرة! - الصبر جميل! - ولكن ألا يستحسن اعتباره اثنين ذوي بطن واحد؟ - لا يمكن أن يتعامل مع الحياة إلا كشخص واحد.
وتبادلا النظر صامتين، حتى سألته: ماذا تسميه؟
ولما لازم الصمت، تساءلت: محمدين! ما رأيك في هذا الاسم المناسب؟
فهز رأسه مستسلما دون أن ينبس، ولما انتبهت ست عنباية لما حولها صعقت، وبكت طويلا حتى احمرت عيناها الجميلتان، وشاركت زوجها عواطفه ... غير أن ذلك لم يستمر طويلا، فاستجابت ست عنباية في النهاية إلى عاطفة الأمومة وعم محسن للأبوة، وراحت ترضع الأيمن، فما سكت البكاء حتى أرضعت الأيسر ... وبعفوية جعلت تنادي الأيمن بقسمتي والأيسر بنصيبي، فمنذ الأسبوع الأول عرف الولد باسمين، وتميز كل بفردية ، فربما نام قسمتي وظل نصيبي صاحيا يتناغى أو يبكي أو يرضع، ومع الزمن خفت الدهشة، وإن لم تخف أصداؤها في الخارج، وألفت الغرابة، وزالت الوحشة ... ونال قسمتي ونصيبي حظهما الكامل من الرعاية والحب والحنان، ومضت الأم تقول للزائرات من أهلها: ليكن من أمره ما يكون، فهو ابني، أو هما ابناي.
واعتاد الحاج محسن - فقد أدى الفريضة بعد التجربة - أن يقول: لله حكمته!
وعلم بفطرته أن الطفولة ستمر كدعابة، ولكنه فكر في المستقبل بقلق واختناق ... أما ست عنباية فاستغرقتها متاعبها المضاعفة، كان عليها أن ترضع اثنين، وأن تنظف اثنين، وأن تربي اثنين، وأن تملك أعصابها إذا نام أحدهما واحتاج للهدوء وصحا الآخر ورغب في الملاعبة. واختلفت بقدرة قادر صورتاهما، فبدا قسمتي عميق السمرة رقيق الملامح عسلي العينين، أما نصيبي فكان ذا بشرة قمحية وعينين سوداوين وأنف ينذر بالضخامة. وأخذ الوليد يحبو على قدمين وأربع أيد، وينطق كلمة بعد أخرى، ويحاول المشي ... ولوحظ أن قسمتي كان أسرع في تعلم النطق، ولكنه كان يذعن لمشيئة نصيبي في الحبو والمشي، وفي العبث بالأشياء وتحطيمها ... لبثت القيادة طيلة تلك الفترة المبكرة بيدي نصيبي، واتسمت بالعفرتة والتدمير ومطاردة الدجاج وإيذاء القطط، غير أن خضوع قسمتي لنصيبي أعفاهما من الشجار، عدا الأويقات النادرة التي كان يميل فيها قسمتي للراحة، فلا يتورع نصيبي عن لكزة بكوعه حتى يسترسل في البكاء. ولما بلغا الرابعة من العمر وجاوزاها، أخذا ينظران إلى الطريق من النافذة ويشاهدان الأطفال، ويرفعان أعينهما نحو السماء من فوق السطح، فانهمرت الأسئلة مع اللعاب: كل ولد ذو رأس واحد، لماذا؟
فتجيب ست عنباية مرتبكة: ربنا يخلق الناس كما يشاء. - دائما ربنا ... ربنا ... أين هو؟
فيجيب عم محسن: هو يرانا ونحن لا نراه، وهو قادر على كل شيء، والويل لمن يعصاه!
ويحدثهما الرجل عما يجب ليحوزا رضاه فيخاف قسمتي، ويقول نصيبي لقسمتي: اسمع كلامي أنا وإلا ضربتك.
Página desconocida