191

Racimos de felicidad

قطوف البشري

Géneros

ذلكم بأننا من بضع سنين كنا في الإسكندرية، وفي ذات عشية تواعدنا على اللقاء في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي لنسافر معا إلى القاهرة على طريق الصحراء؛ ليدرك امتحان كلية الطب وفي الوقت متسع كبير.

وسرنا على اسم الله في سيارته طبعا، وفي صحبتنا نجلاه الدكتوران العزيزان، وهنا لا أحد من إيراد هامش يسير من هوامش هذه الرحلة. وذلك أنه اعترضنا في جهة الدخيلة منعرج كان يعالج بالرصف؛ لأن أرضه قد هشت وأعلن مجتازوه بوجوب تخفف السيارات من راكبيها، إلا أن يكون واحدا مثلا حتى لا تسيخ عجلاتها في الرمال، ونظر بعضنا إلى بعض وتهيأنا للنزول، ولكن الأسطى عبده كان على ما يظهر قد سبق إلى زنة الحمل، فمضى قدما ولم يرعنا إلى أن يجوز بنا الرمل، ولم تكد العجلات ترسم فيها أثرا!

ولقد حمد الله على أنني كنت معهم ولولا هذا لاستحالت السيارة بالونا، وطلبوا القاهرة بطريق الجو الذي يفزع الدكتور من ذكر اسمه، كما أن لي الشرف بأن أشاطره الفزع من هذا الاسم الكريم!

بلغنا بسلامة الله محطة شل، فأفطرنا وأخذنا قسطا من الراحة، ثم استأنفنا السير واندفعت السيارة في طريقها، حتى إذا صرنا على نحو ثلاثين كيلومترا من مينا هاوس فوجئنا بما لم يدخل قط في الحسبان، فلقد وقفت السيارة فجأة، وأومأ الأسطى عبده إلى دخان يتنفس به خزان الماء دليلا على أن المروحة قد تعطلت، فجعل الماء يغلي فيه غليانا وتدلى فكشف الغطاء، فإذا السير قد انقطع فشمر للعلاج بوصله وسرعان ما استحال الدكتوران حسن وعلي، ممرضين يسعفان الدكتور عبده بمطالبه في إجراء هذه العملية، هذا يناوله المخراز وهذا يثقف له السلك المثنى، ثم واصلت السيارة سيرها حتى إذا قطعت كيلومترا أو بعضه توقفت ثانيا، فوصلوا السير من جديد ثم مضينا بضع مئات من الأمتار، ثم توقفت إذ لم يبق في السير فضل لوصل ولا التئام، فجاءوا بحبل من تلك الحبال التي شدت بها سلال الفاكهة وأقاموه مقام السير، ولكن لم تمض السيارة طويلا حتى استرخى الحبل وفتر عن إدارة المروحة، وتدلينا كلنا أيضا لمعالجة الأرض والتماس الحيل.

وقف الدكتور ووقفت بجانبه، وإذا كان لي أن ألاحظ في هذه الوقفة شيئا، فذلكم أنني على طول عشرتي للدكتور علي «باشا» إبراهيم، فإنني لم أره قط في حالة عصبية كالحال التي كان فيها ذلك اليوم، بل إنني لم أكد أراه في حالة عصبية مطلقا.

ساكت لا ينبس بكلمة واحدة، وإن كانت شفتاه دائمتي الاختلاج إذ يده لا تفتأ تخرج الاسعة من جيبه ثم تسرع إلى ردها إليه، ثم تخرجها ثم تدسها وكذلك ظلت هذه الحركة الميكانيكية السريعة بغير توقف ولا لبث ولا فتور.

على أنني شككت في أن يكون هذا النظر الشارد كان يفضي إلى صاحبه بموضع العقرب من الساعات بل الدقائق، وأذن الله وانطلقت بنا السيارة بفضل بعض الحيل الميكانيكية التي أحمد الله على أنني لا أعرف فيها شيئا!

سيداتي، سادتي

إلى تلك الساعة، كنت أعتقد أن الدكتور علي «باشا» إبراهيم ذاهب ليشرف على شأن الامتحان في كلية الطب، ويتفقد النظام، حتى أقنعني ذلك الموقف بأنه إنما كان ذاهبا لأداء الامتحان، وأن أخشى ما كان يخشاه أن يفوته الميعاد المقسوم لحضور الطلاب، فلا يؤذن له بالدخول فتفوت عليه سنة كاملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وانحدرنا إلى شارع الهرم حيث سيارات الأجرة لا يحصيها العدد، ولا يقوى عليها العداد، ولكن الكيادة التي أبت كذلك إلا أن تحرن في جوف الصحراء، أبت كذلك إلا أن تجمح في الطريق العامر المأهول حتى كاد السائق لا يستطيع لعنانها ضبطا!

Página desconocida