وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
نتساءل يا هذا في حكمة الله - جل مجده - في خلق الذباب وبثه، وتنكر ما يلون للناس من الأذى في صحتهم وفي حياتهم، وقد ذهب عنك أيها الأبله أن هذا الذي تنكر من فعل الذبان هو بعض حكمة الحكيم في خلق الذبان، فلقد تعلم أنه لولا شيوع الأمراض والعلل لما مات أكثر من يموت من الناس في كل يوم وفي كل ساعة، وإذن لاطردت الزيادة في عدتكم يا بني آدم حتى تضيق بكم مساحة الأرض، ويعجز بطنها وسائمتها عن مواتاتكم بما يكفي لبعض طعامكم وكسوتكم، فلا مفر لكم من التناحر والتقاتل في التماس أسباب العيش، حتى ليقتل الوالد ولده وتأكل الأم طفلها، طوعا لغريزة استبقاء الحياة، وكذلك لا يلبث العالم كله أن تسوده الفوضى وهي أهم عوامل الفناء، فالموت إذن أيها الأبله هو أبلغ أسباب الحياة!
1
ثم إذا كنتم تنكرون أيها الأغفال ما ينشر الذباب فيكم من أسباب الأمراض والعلل، وتتمنون على الحياة لو تعيشون الدهر في صحة وعافية، فمن أين لعمري تعيش هذه الجيوش الجرارة من الأطباء والممرضين، والممرضات وخدم العيادات والمستشفيات، والصيدليين وعمال الصيدليات، وأصحاب مصانع الأدوية والعاملين فيها، ومنتجي المواد الأولية للعقاقير الطبية، ومن وراء كل هؤلاء مممن يعولونهم، ويعودون بهذا السعي على شملهم!
ثم لا تنس العاملين في أسباب الموت من «الحانوتية» واللحادين - التربية - وباعة الأكفان، وسواقي عربات الموت، وغير أولئك ممن لا يصيبون الأرزاق والأقوات إلا بفضل الموت والأموات!
وسكت برهة، ثم قال: أفآمنت الآن أن ذبابا واحدا أجدى على العالم، وأعود بالخير على نظامه منك ومن عشرة من أمثالك؟
فقلت: آمنت بالله.
ثم لم يرعني إلا أن أرى هذا الخلق الكبير، جعل يصغر ويضمر حتى عاد ذبابا في جرم سائر الذباب، ثم طار فوقع على رميق عيني وجعل يفحصه برجله فحصا غير رقيق، وما كدت أتهيأ للقيام حتى أدركت أنني كنت في أحكم الأحلام!
وفرغ صاحبي من حديثه، فقلت له: إذن فقد آمنت بأنك في هذه الحياة لا تساوي ذبابا؟ قال: ولا عشر ذباب، وكذلك يكفيني الله شرور الغرور والافتتان، وهما أشد مهالك الإنسان فقلت: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
عواطف
Página desconocida