الحكاءون (3)
اصطمبول (2)
كان بائع غرابيل يجول في الطريق هاتفا بغرابيله، فدعا به رجل واستنزله حمله وسأله أن يحل وثاقه، وينثر الغرابيل بين يديه نثرا، ففعل الرجل وجعل «الزبون» يعجمها واحدا بعد واحد، ويطيل النظر في تفقدها ويكثر من جسها وغمزها، حتى إذا أتى عليها جميعا عاد إلى تفقدها وجسها وامتحانها، وما زال يفعل ذلك ويكرره حتى استهلك فيه الساعات الطوال، والرجل ينظر إليه في غيظ وحنق، لما أضاع من وقته وامتهن من سلعته، حتى إذا انتهى اختياره إلى أصلبها خشبا، وأجودها جلدا، وألحمها نسجا، وأحكمها شدا، قال له: بكم هذا الغربال يا شيخ؟ فرأى الرجل أن يكافئ كل هذا العناء بالإغلاء في الثمن، فقال: بخمسة وعشرين قرشا! فقال له في دعة وفتور: بثلاثة قروش تعريفة! فثار ثائر الرجل، وضرب الأرض بإطار الغربال فوثب حتى صك ناصيته، فأعاد الضربة بأشد مما ضرب فصك الغربال ناصيته بأشد مما صك، وما برح الغيظ يفعل به هذا، والسابلة يجتمعون حوله من كل مذهب ليطالعوا هذا المشهد العجب، حتى شدخ الغربال رأسه وأسال دمه، فصاح فيهم: أيها الناس! أمنتظرون أنتم حتى يقتلني هذا الغربال؟
ولا أكتمكم يا معشر القراء أن هذا القلم كثيرا ما ينشز علي ويجمع، وتستعصب على سياسته وضبط عنانه، ولقد أسوقه في طريق فيخالفني إلى غيره، ولقد أرسم للمقال نهجا محدودا، فيأبى إلا تعدي الحد والعدول إلى نهج آخر حتى ينتهي في بعض الأحيان إلى الغاية التي يبغيها هو لا الغاية التي أطلبها أنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ومن هذا البلاء الذي امتحنت به من هذا القلم الجامح المتمرد، أنني بدأت مقال الحكائين على أن يجري كله لحال أو قصر في فنون من التسلية والتندر في هذا الحر وهذه الحرب، خيبة الله عليهما جميعا، وإن كنت لا أتزيد ولا أعدو الصدق أبدا، فإذا هو يتنظر لي بشبح عبد الحميد وحكم عبد الحميد، وحكايات من كانوا ينتابون الآستانة في عهد عبد الحميد ثم إذا هو يمعن في هذا الطريق إمعانا لم يدخل لي يوم بدأت الحديث في تقدير ولا تصوير!
والآن كيف الرجوع إلى النهج الذي بدأنا بسلوكه، وكان بحمد الله بين الحدود واضح الأعلام؟
كيف لنا بهذا وقد التوت السبل، وغشت السياسة وجه الطريق بما هو أحد من الحسك ومن شوك القتاد؟
أفترانا نستعدي على جماح هذا القلم جمهرة القراء، كما استعدى النظارة على غرباله صاحب الغرابيل؟
أريد مفاكهة وتندرا، ويأبى علي القلم إلا خوضا في ظلمات عبد الحميد، وما كان يعاني من ظلمة رواد الآستانة من المصريين وغير المصريين؟
اللهم إنه ليس من الرأي التصدي لكبحه وهو حمى ثورته، بل الرأي كل الرأي في مجاراته وإلانة قياده وإظهار المطاوعة له حتى تفطر حدته، ويطامن من جماحه، وحينئذ يتهيأ صرف عنانه إلى وضح الطريق، وكذلك نمضي في المقال على اسم الله العلي العظيم.
Página desconocida