157

Racimos de felicidad

قطوف البشري

Géneros

ولعلك قد أدركت من هذا أن ذلك الأديب النير الحساس لا يجدي الأدب ولا الناس إذا لم يكون متمكنا من ناحية البلاغة، حتى يستطيع أن يكون أمينا ودقيقا ورائعا فيما ينفضه عليك من صور البيان.

وبعد، فإن مهم الأديب في الشرق جليل الخطر بعيد الأثر، مهمه الأول أن يوجه حسه إلى الشرق، وأن يحرر عاطفته كلها للشرق، فقد استدرج الغرب إليه حس أدباء الشرق وعواطفهم جميعا، أستغفر الله بل لقد سطا بها سطوا، وانتزعها من بيئتها انتزاعا.

اللهم إن أعظم أدبائنا الشرقيين قدرا، وأجلهم خطرا لا يكادون يطرحون النظر إلا على الغرب، لا يكادون يتصورون الأشياء إلا بذهن الغرب ولا يكادون يصورون ما يجدون إلا على أسلوب الغرب بل لا تكاد أعرافهم تلين وتنفع! إلا لما يقبل عليهم من ناحية الغرب، لقد استهوتهم حضارة الغرب، وفتنهم جمال الغرب وملك فكر الغرب عليهم كل مذهب، فلم تبق فيهم فضلة لتقليب النظر في هذا الشرق، ولا لتصفح وجهه والتدسس إلى ما تحت السطوح مما كثرت القرارات وأجنت الأطواء!

ولعل عذرهم كان في أنهم نشئوا في لغات ميتة، وآداب ميتة، وحضارة ميتة، وأفكار ميتة، وجو كله موت لا تترقرق فيه نسمة من نسمات الحياة! وما ظنك بمن أحس الاختناق لفساد الجو، أفلا تراه يجري لالتماس الهواء الطلق يتفرج به ويملأ منه رئتيه كلتيهما ليرد به على نفسه ما مضى عنها الحياة، وكذلك صنع أدباء الشرق، وكانوا فيما صنعوا حق معذورين!

في الحق إن الغرب قد استولى على أدبنا، وأعني أدبنا الحي أو أدبنا الذي يزعم لنفسه الحياة، كما استولى على أرضنا وعلى علمنا وفننا، وتجارتنا أو صناعتنا وكل سبب من أسباب الحضارة في هذا العالم، لقد استولى الغرب على كل شيء عندنا حتى على الأدب، وأصبحنا في جميع وسائلنا أشبه بالمكارين يسعون سعيهم لحساب أصحاب الأموال.

ولقد يتعاظمك ويشبع فيك العجب ما زعمت من أن الغرب قد استولى على أدبنا فيما استولى، ولقد يكون أهم الداعيات على إنكارك ما ترى كل يوم لكتابنا المجلين من لفظ عربي رشيق في نظم عربي أنيق، وما تجد من منازع بلاغات تطاول أذكى بلاغات العربية في أزهى العصور، فليس الأدب حلاوة لفظ وتلاحم نسج وإشراف ديباجة فحسب، بل إنه قبل ذلك لوضاءة نفس ودقة شعور، ورهافة إحساس، ونفوذ نظر، وتهيؤ فطري لبراعة التصور، ثم قدرة قادرة على براعة التصوير، وفي هذا المظهر الأخير إنما يحتاج إلى براعة النظم وصحة البيان!

وأرجو بعد هذا أن تحدثني بعيشك، كيف يكون أدبنا شرقيا وكيف يعد أدباؤنا أدباء شرقيين، وهم متغيرون لبيئتهم منكرون كل الإنكار لما يحيط بهم، لا حظ للشرق، ولا لطبيعة الشرق، ولا لشيء من أسباب الشرق فيما يتصورون وفيما يصورون؟

وبعد، فللشرق أرضه وسماؤه، وله هواؤه، له جباله ووديانه، وأنهاره وخلجانه، نباته وحيوانه، وله سهله ووعره، ومعمورة وقفره، وله صحاريه، وناهيك بصحاريه، وما ألهمت من الشعر في قديم الزمان! وللشرق عاداته وأخلاقه، وله أفكاره وأذواقه ...

للشرق جماله وفتنته وسحره، وله جلاله ورهبته، وهذا تاريخه الضخم، لقد احتشد بعوامل القوة والعظمة، كما سال بآثار الفلسفة والعلم والفن جميعا، ولقد أزل لنا هذا التاريخ من مجالي عظمة الشرق ما يحير الألباب، سواء منه ما طاول السحاب وما دسا في التراب!

ولعمري، أليس في هذا كله ما يبعث العاطفة ويستجيش الحسن، ويلين أبدع الصور تتراءى في أبدع البيان؟

Página desconocida