فصنعت فيهما لحنًا شجيًا يشبه النوح، ثم غنيته إياه فأُغمي عليه حتى ظننت أنه قد مات، ثم أفاق وكأَنَّه أُنشر من قبرٍ، ثم قال: أَعِد فديتك، فنشدتُهُ بالله في نفسه، وقلت: أخشى والله أن تموت، فأبى وقال: ليت ذاك كان، وهيهات، نفسي المشئومة أشقى من أن أموت فأستريح، وما زال يخضع ويتضرع ويبكي حتى رحمته، فأعدتُ الصوت، فصعق صعقة أشدَّ من الأُولى فلم أك أن نفسه خرجت، وبقي ملقىً لا يتنفس إلا نفسًا خفيًا فما زلت أنضح ماءَ الورد على وجهه وأُبَّخر بين يديه وأُّشمه أصناف الطِّيب حتى فتح عينيه وأَفاق وبقي ساعةً ملقى ثم تحامل فجلس، فحمدتُ الله تعالى على سلامته ووضعت دنانيره بين يديه وقلت: خذ مالك وانصرف عني، قد قضيت حاجتك، وبلغت وطرًا مما أردته ولست أُحب أن أشرك في دمك فقال لي: يا هذا لا حاجة لي في الدنانير ولك عندي مثلها وأعد عليَّ هذا الصوت مرة أُخرى فقط، وأنا أنصرف عنك وخلاك ذمٌّ، فشرهتُ إلى الدنانير، فقلت: لا والله ولا أضعافها إلاَّ على ثلاث شرائط، فقال: وما هن، فقلت: أما أولُهن فتقيم عندي، وتأكل من الطعام ما تقوي به نفسك، والثانية أن تشرب أقداحًا تمسك قلبك وتحفظ نفسك ويثبت في حافظتك ما تسمعه، والثالثة أن تحدثني بحديثك فلعل ذلك ينفعك، قال: أفعل، فدعوت بالطعام فأصاب منه إصابة مُعذر، ثم دعوت بالشراب فشرب أقداحًا وأنا أُغنيه من عرض الأغاني ما يحضرني وهو يشرب ويبكي، ثم قال: الشرط أعزك الله، فلما رأيته قد خف ما به، ورأيت النبيذ قد شدَّ قلبه، كررت عليه مرارًا ثم قلت: حدثني، قال: أجل، قال: أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزهًا وقد سال العقيق في فتيةٍ من أقراني وأخداني فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له فجلسن وبصرت بفتاة منهن كأنها غُصنٌ قد طلله الندى تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس ملاحظهما، لإاطلنا وأطلن حتى تقَرَّض النهار " ثم تفرقنا وقد أبقت بقلبي جرحًا بطيئًا اندماله، فعدت إلى العقيق، أتنسم خبرها وأطنع في لقائها، فإذا هو خالٍ ليس فيه أحد، ولا أرى لها ولا لصواحبها أثرًا، ثم جعلت أتتبعها في أسواق المدينة وطرقاتها فكأن الأرض أضمرتها، فمرضت أسفًا عليها، وصبابة بها وضنيت حتى يئس أهلي مني فخلت بي ظئر لي استعلمتني حالي وضمنت لي كتمانها، والسعي فيما أحبه منها، فأخبرتها الخبر فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع ما انقضت بعد وهي سنة خصبٍ وليس يبعد عليك المطر وهذا العقيق، فتخرج حينئذ وأخرج معك فإذا جاء النسوة ورأيت من تريد فعرِّفني حتى أتبعها فلا أفارقها أو أقفعلى موضعها، وأصل بينك وبينها، وأسعى لك في تزويجها، فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك، ووثقت به وسكنت إليه، وأصبت شيئًا من الطعام، وتراجعت نفسي، ولم نلبث أن جاء المطر وسال العقيق فخرج الناس ينظرون إليه وخرجت فيهم مع إخواني أولئك وظئري فجلسنا مجلسنا الأول بعينه، فما كنا والنسوة (إلا) كفرسي رهان، وأومأت إلى ظئري إيماءً، عرفتها به فجلسن قريبًا منا، فقلتُ لظئري: قولي لهذه الجارية، يقول لك هذا، والله لقد أحسن الذي يقول:
رمتني بسهمٍ أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحًا به وندوبا
فمضت فقالت ذاك لها، فقالت: ارجعي فقولي له: لقد أحسن القائل وأحسن من أجابه حيث يقول:
بنا مثل ما تشكو، فصبرًا لعلنا ... نرى فرجًا يشفي السقام قريبا
1 / 9