وكانت طيف جارية عُلية بنت المهدي، مولدة عراقية حسنة الوجه والغناء، فلما ماتت عُلية خرجت من دارها وهي حرة فتزوجها رجل مقيِّن يُقيِّن عليها، وحضر عندها يومًا أبو نواس والحسين الخليع وجماعة من الأُدباء فأكلوا وشربوا وغنَّتهم، واقترح عليها أبو نواس صوتًا فكايدته وأبت أن تغنيه فقال لها كالعابث بها: رأيت البارحة في النوم كأني راكب على رَمَكة شهباء وعليها جُلٌّ وكانت عليها غلالة خضراء، فعلمت أنه يعرض بها فقالت له: إن صدقت رؤياك استدخلت في استك فجلة، فضحك والله كل من حضر، وخجل أبو نواس وغضب ولم يُنتفع به ذلك (اليوم)، ولم يحضر مجلسها بعد ذلك.
وأما عبد الصمد بن المُعذل، فسلك طريقة أبي نواس والحسين الضحاك فتوةً وظرفًا وإدمانًا وشعرًا، وهو الذي يقول:
لما رأيت الدِّيك قد صاحا ... والكوكب الدرِّيَّ قد لاحا
والليل قد أسبل ثوب الدُّجى ... والورد والخيريّ قد لاحا
ناديت فتيانًا ترى فيهم ... للكأسِ إفسادًا وإصلاحا
من هاشمٍ في بيت أكرومةٍ ... طووا على اللذات أكشاحا
يا إخوتي نال الكرى حظه ... فاغتبقوا الريحان والراحا
فرافعٌ رأسًا ومستلقيًا ... ونائم سكرًا ومرتاحا
ومن عجيب قوله:
أسقني إن سقيتني بالكبير ... إنَّ في شربه تمام السرور
أنا والله لست أكذبكم آنفُ من أن أُرى صريع صغير
وكان الأُقيشر الأسدي، مولعًا بالشراب وهو الذي يقول:
وصهباء جرجانيةٍ لم يطُفْ بها ... حنيفٌ ولم تَنْغِرْ لها ساعة قِدرُ
أتانب يها يحيى وقد نمت نومةً ... وقد غادرت الجوزاءُ أو خفق النسر
ولم يَحْضُضِ القس المتيم نارها ... طروقًا ولم يشهد على طبخها جمر
فقلتُ اغتبقها أو لغيري أسقها ... فما أنا بعد الشيب، ويبك، والخمر
تعففت عنها في العصور التي خلت ... فكيف التصابي بعدما كلأ العمر
إذا المرء وفىّ الأربعين ولم يكن ... له، دون ما يأتي، حياءٌ ولا سترُ
فدعه ولا تنفِس عليه الذي ارتأى ... وإن جرَّ أسباب الحياة له العمرُ
وكان له جار صالح يقال له يحيى فقال: يا فاسق، أ، اجئتك بها، فقال له: يرحمك الله، ما أكثر يحيى في الناس.
قال إسحق الموصلي: أنشدت أُم الهيثم الإعرابية:
وكأس سلافٍ يحلف الديك أَنَّها ... لدى المزج من عينيه أصفى وأحسن
فقالت: لقد بلغني أن الديك من صالحي طيوركم وأعرفها بأوقات الصلاة، وما أحسبه كاذبًا. وقال أبو يوسف القاضي: كان لأبي حنيفة جارٌ كيال وكان لا يبيت إلا سكران، وكان أبو حنيفة طويل قيام الليل فكان الكيال إذا سكر غرَّد بصوتٍ عالٍ:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليوم كريهةٍ وسدادِ ثغرِ
وفقد أبو حنيفة صوته ليلةً أو ليلتين، فقال لجاريته: ما فعل جارنا الكيَّال؟ قالت: أخذه صاحب الحرس، فلما أصبح أبو حنيفة أتى باب عيسى بن موسى فاستأذن به فأذن له، وكان قليل الزيارة للسلطان، فلما دخل عليه، قام إليه ورفع مجلسه وقال: أمرٌ ما غدا بك أبا حنيفة، قال: نعم، جارٌ لي أخذه صاحب العسس منذ ثلاث ليالٍ، فأمر عيسى أن يخرج كل من أخذ تلك الليلة إكرامًا لصاحب أبي حنيفة، وانصرف أبو حنيفة، فلما صار ببابه فإذا الكيال يقفوه، فقال، وتبسم إليه: هل أضعناك يا فتى، قال: لا والله، جعلتُ فداك، بل حفظت وأكرمت. وقال المتوكل لبختيشوع الطبيب: ما أفضلُ النُقل على النبيذ؟ قال: نقلُ أبي نواس. قال: وما هو؟ قال: قوله:
ما لي في الناس كلّهم مَثَلُ ... مائي خمرٌ، ونُقلي القُبَلُ
يوميَ حتى إذا العيونُ هَدَت ... وحان نومي فمفرشي كَفَلُ
1 / 49