فغنيته فبكى، ثم قال: يا أبا المهنأ على اللهو السَّلام، والله لا يراني الله بعد هذا اليوم حاضرًا لهوًا ولا لعبًا ولا ذائقًا مسكرًا وقد ختمت الدنيا بغنائك، ثم عانقني وقال: [انصرف] إذا شئت، قال: وكنت من شدة حذري ركبت إليه وليس معي غلامٌ ولا شاكري ولا يعلم أحد في منزلي إلى أين غدوتُ، ورسلُ الرشيد في طلبي قد ربعوا بغداد وهم يضربون غلامي يسألونه عني ولا يعلم لي موضعًا حتى برزت من سكة أبي العتاهية فابتدرني غلامٌ لي ومعه الرسل، فكان وجهي معهم إلى القصر، فلم أُسأل عن شيءٍ حتى بطحت فضربت مائة مقرعة، ثم قيل لي: يقول لك أمر المؤمنين: أين كنت اليوم؟ فقلت: إن لي عذرًا لا أتكلم به حتى أرى وجهه، فدعاني فقصصتُ قصتي وقصته من أولها إلى آخرها على ما كانت، فقال الرشيد: فجعتنا والله بأبي العتاهية، إني لإخاله خاتمة لهونا، ثم قال: غني أصواته، فكررتها عليه صوتًا صوتًا، ثم حدثته عن طعامنا وشرابنا ومجلسنا، فقال: ما أحسن كلّ شيءٍ كنتم فيه، ثم قال: يا غلام، عشر بِدر، فلما أُتي بها ووضعت بين يديه قال: هذه المائة بتلك المائة، فقلت: يا سيدي، وددت والله لو كانت مائتين، فضحك، وأمر بعشرٍ أُخرى، فانصرفت بمائتي ألف وغدوتُ على أبي العتاهية فحدثته بما جرى وعرضت عليه المال، فقال: وددت يا أخي أني وقيتك الضرب وأنهم أضعفوا لك الصلة.
وحكى أحمد بن يحيى ثعلب عن عمرو بن شبَّة عن مخارق، قال: دخلت على أبي العتاهية في مرضه الذي مات فيه فلما رآني هشَّ إليوقال: ادنُ مني بأبي أنت وأمي فدنوت منه [وقلت] ما تحب، فقال: أحب أن أسمع منك:
أحمدٌ قال لي ولم يدر ما بي ... أتحب الغداة (عتبة) حقا
فتنفست ثم قلت: نعم حُبًا جرى في العروق عرقًا فعرقا
لو تبينت ما يجن فؤادي ... لرأيت الفؤاد قرحًا تفقا
قال: فغيته، فقال: كأني حييت بك واستعاده مرارا فأعدته فقال: انصرف راشدًا، وسألني أن آتيه في غدٍ وقال: إن لم تأتني متُّ فجئته من الغد فقال: غنِّي:
إذا ما انقضت عني من العيش مُدتي ... فإن غناء الباكيات قليل
ستُعرض عن ذكري وتنس مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
فغنيته وأُغمي عليه وخرجت من عنده فلحقني من عرَّفني بوفاته.
واجتمع دعبل وصريع الغواني وأبو نواس وأبو الشِّيص فقال أبو نواس: إن مجلسنا هذا قد شهر باجتماعنا فيه ولهذا اليوم ما بعده، فليأت كل امرئ بأحسن ما قاله فليُنشده، فأنشد أبو الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخرٌ عنه ولا متقدمُ
وأنشد صريع:
أُجررت حبل خليعٍ في الصِّبا غَزِلِ ... وقصرت همم العذال عن عذلي
أنشد دعبل:
أين الشباب وأيةً سلَكا ... لا أين يطلب، ضلَّ، بل هلكا
ثم سألوا أبا نوا أن ينشدهم فأنشد:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هندِ ... واشرب على الورد من حمراءَ كالورد
فسجدوا له فقال: أفعلتموها أعجمية، لا كلمتكم ثلاثًا ولا ثلاثًا ولا ثلاثًا، ثم قال: تسعة أيام في هجر الإخوان كثيرة، وفي هجر بعض يوم استصلاح المفاسد وعقوبةٌ على الهفوة، فإن أيام العمر أقلُّ من أن تمحق بالهجر.
وأُشيع عنه أنه نزع عما كان عليه من البطالة وشرب الخمر، فاجتمع أصحابه وأقبلوا عليه يهنئونه بذلك، فوضع بين يديه باطية وجعل لا يدخل عليه أحد يهنئه إلا شرب رطلًا وأنشد:
قالوا انزعت ولمّا يعلموا وطري ... في كل أغيد ساجي الطرف ميّاسِ
كيف النزوع وقلبي قد تقسمه ... لحظ العيون وقرع السن بالكأس
لا خير في العيش إلا المجون مع الأكفاء والراح والريحان والآسِ
ومسمع يتغنى والكئوس لها ... حَثٌ علينا بأخماس وأسداس
يا موري الزَّند قد أعيت قوادحه ... اقتبس إذا شئت من قلبي بمقباس
ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم ... إذا نظرت فلم أُبصرك في الناس
1 / 41