وجرى بين معبد المغني وبين الأحوص كلام، فحلف معبد لا يكلمه ولا يغني في شعره، فشقَّ ذلك على الأحوص، فلما طالت هجرته إياه رَحَلَ نجيبًا له وجعل زُكرةَ خمرٍ في حقيبته وأعدَّ معه دنانير ومضى نحو معبد فأناخ ببابه ومعبد جالس بفنائه، فنزل إليه الأحوص وكلَّمه فلم يكلمه معبد، فقال: يا عبّاد، أتهجرني وقد عرفت مودَّتي وصحبتي؟ فخرجت إليه امرأته أُم كردم فقالت: أتهجر أبا محمد، والله لكلَّمته، فاحتمله الأحوص وأدخله البيت وقال: والله لا رمتُ هذا البيت حتى آكل الشواءَ وأشرب الطلاء وأسمع الغناء، فقال له معبد: أخزاك الله، هذا الشواء أكلته، وهذا الغناء سمعته، أنى لك بالطلاء، قال: قم إلى تلك الحقيبة ففيها زُكرة خمرٍ ومعها دنانير فأصلح بها ما تريد من أمرنا، ففعل، فقالت أُم كردم: معبد، أتهجر من إن زارنا أغدر فينا نَيْلًا وفضلًا وأكلًا وشربًا! وغناه معبد، ثم انصرف الأحوص مع العشاء يميل بين شِقَّيْ راحلته.
وقال أبو الفرج الأصبهاني: حكى يونس الكاتب، أنَّ معبدًا، كان علَّم جارية لبعض أهلِ المدينة تسمى ظبية، وعُنيَ بتخريجها حتى حذقت عنه، فاشتراها من أهلها رجل عراقي وتوَّجه بها إلى البصرة، فغلبت عليه وشغف بها غاية الشغف، وعَلَّمَت له عدة جوارٍ ثم ماتت عنده، فكان لشدة وجده بها وأسفه عليها لا يزال يهذي بمعبد ويسأل عنه ويظهر له التعصب إلى أن بلغ معبدًا خبرُهُ وعرف أنه من أهل اليسار والمروءة، وأنه لو قصده انتفع به فمضى نحوه. فلما قدم البصرة سأل عنه فقيل: اليوم انحدر إلى الأهواز، فأسرع معبد في أثره ليلحق به فطلب زورقًا فصادف الزورق الذي فيه الرجل، فقال له الرجل: أين تريد؟ قال: الأهواز، قال: وما تصنع هناك؟ قال: أنا رجل أُغني وأحببتُ أن أقصد بها الفتيان وأهل المروءة، فلما سمع الرجل ذلك قربه وأكرمه وفرش له موضعًا في الزورق من غير أن يعرف أحدهما الآخر، فلما حضر الطعام أكلا جميعًا وأتى بالنبيذ فشرب، وكان مع الرجل جوارٍ ممن كانت ظبية علمتهن، فأمرهن أن يغنين، فغنَّت إحداهن:
بانت سعاد وأمس حبلها اتخذما ... واحتلت الغور والأجراع من إضما
إحدى بَليٍّ وما هام الفؤاد بها ... إلا السفاه وإلا ذِكرةً حُلُما
والغناء لمعبد [تجد أداءَه] فقال لها معبد: إن غناءَك هذا ليس بمستقيم، فقال له الرجل: أبلغ من قدرك في الغناء أن تميز هذا الصوت، فالزم شأْنك؛ فأَمسك، وغنت بعده عدة أصوات وهو ساكت، ثم غنَّت لحنًا فاختلَّت به، فقال لها معبد: يا جارية قد أخللت بهذا الصوت إخلالًا شديدًا، فقال له الرجل: ويلك مالك والفُضول، فسكت حتى فرغت الجارية، واندفع معبد يغني الصوت الأول حتى فرغ منه، فصاح الجواري: أحسنت والله، أَعِده علينا، قال: لا والله، ولا كرامة، ثم اندفع في الصوت الثاني، فقلن لسيِّدِهن: هذا والله أحسن الناس غناءً، فسلْهُ أن يعيده علينا ولو مرة واحدة لعلنا نأخذه عنه فإنا لن نجد مثله أحدًا، فقال: أسلفنا عنده إساءة وقد سمِعتن جوابه، وانا أخشى إن سألته مسألةً، فما فرغ الصوت حتى زلزل الأرض، فوثب الرجل فقبَّل رأسه واعتذر إليه، ولم يزل به حتى سكن، فقال له: من أين لجواريك هذا الغناء؟ قال: أخذنَهُ عن جارية كانت لي يقال لها ظبية ابتعتها من الحجاز من تعليم الأُستاذ معبد، وكانت تحل مني محلَّ روحي من جسدي، فاستأثر الله بها، فأنا إلى الآن أَتعصب لمعبد ولغنائه، فقال له معبد: وإنك لأنت هو، فأنا والله معبد، وإليك أردتُ ولك قصدتُ، فسُرَّ الرجل به وقبَّل رأسه، وخرج الجواري فقبلن يديه ورجليه، فقال له معبد: والله لأُقيمن عندك حتى أصير جواريك مثل ظبية وأكثر، فأقام عنده سنة، وانصرف عنه وقد أجزل صلتهُ وجائزته وأحسن إليه.
قال إبراهيم الموصلي: حُدِّثتُ أن ابن عائشة وأصحابًا له كانوا يجتمعون كلَّ يوم عند واحد منهم ويطربون وبلغت النوبةُ إليه ولم يكن عنده ما يقوم به يومهم، فصاغ صوتًا في شعر مَدَحَ به العباس بن عليّ بن عبد الله بن العباس، فغدا عليه والعباس مريض وعند عُوادُه، فلما دخل إليه اندفع يغني:
أسهر بالليل من تذكُّرِ ما ... تسهَرُ منه والناس قد هجعوا
1 / 37