قال إسحق بن إبراهيم الموصلي: غدوت يومًا إلى الفضل بن يحيى مُسلمًا عليه فقال لي: إن أمير المؤمنين بعث إليَّ يعرفني أنه أحب اليوم الخلوة مع الحرُم وأمرني أن لا اركب، وقد كنت على البعثة إليك لنصطبح صبوحًا، وأمر بإحضار الطعام والشراب، ومدَّت الستارة، فطعمنا وشربنا وغنت جواريه فمرَّ لنا أَسرُّ وقت، فقال لي: يا أبا محمد، قد مللت كلَّ ما يمر على سمعي من هذه الصوات وإن كانت في غاية الجودة وإحكام الصنعة فأطرِبني بشيء تصنعُهُ الآن، فعمِلت في الوقت:
وقائل لِيَ لمّا أن رأى زَمَني ... برى عظاميَ برَى القدِحِ بالسَّفَنِ
هل كانبينكما فيما مضى تِرةٌ ... فصار سعيُك بالأوتار والإِحنِ
فقلتُ لو كان لي بالفضل معرفةٌ ... فضل بن يحيى، لأعداني على الزمن
هو الفتى الماجدُ الميمونُ طائِرهُ ... والمشتري الحمد بالغالي من الثمنِ
وصنعت له لحنًا مطربًا فَسُرَّ به واستعادني فيه مرارًا، وأمر لي بثلاثمائة ألف درهم وجدتها حين انصرافي قد سبقتني إلى منزلي.
وكان محمد بن إبراهيم قد ركبه دينٌ، فقَصَدَ الفضل بن يحيى ومعه حقٌ فيه جوهرٌ وقال له: قَصُرت غلاتنا، وأغفل أمرنا خليفتنا ولَزِمنا دينٌ احتجنا له إلى ألف ألف درهم، وكرهت بذل وجهي للتجار، ولك من يطيعك منهم، ومعي رهنٌ ثقةٌ بذلك. فإن رأيت أن تأمر بعضهم بقبضه وحمل المال إلينا، فدعا الفضل بالحُقّ ورأى ما فيه وختمه بخاتم محمد بن إبراهيم، وقال: تحُوجُ الحاجة أن تقيم اليوم عندنا، فأقام ونهض الفضل فدعا بوكيل له وأمره بحمل المال وتسليمه إلى خادم محمد بن إبراهيم وتسليم الحُقِّ الذي فيه الجوهر بختمه، ففعل الوكيل ذلك، وأقام محمد عنده في أكل وشربٍ ولهوٍ ولعبٍ إلى المغرب وليس عنده خبر، ثم انصرف إلى منزله فوجد المال والحُقّ فغدا على الفضل ليشكره، فوجده قد سبقه بالركوب إلى دار الرشيد فوقف منتظرًا له، فقيل له قد خرج من الباب الآخر، فانصرف إلى منزله فوجد الفضل قد حمَّل إلى منزله ألف ألف درهم، فغدا عليه فشكره وقال: ما سبب هذا المال الآخر، جعلني الله فداك، قال: بتُّ ليلتي وقد طالت عليَّ غمًا بما شكوته إلي، وأعلمتُ أمير المؤمنين بالحال، ولم أزل أماكِسُهُ حتى أمر بحمل ألف ألف درهم، وذكر أنه لم يصلك بمثلها قط، فقال له: صدق أمير المؤمنين، وإنما تهيأ هذا بك، وعلى يديك، وما أقدر على شيء أقضي به حقَّك، ولا شكرٍ أؤدي معروفك، غير أن عليَّ وعليَّ، وحلف بأيمانٍ مؤكدةٍ، إن وقفتُ بباب أحدٍ سواك أبدًا، ولا سألت غيرك حاجةً أبدًا، ولو استففتُ التراب، فكان لا يركب إلى غير باب الفضل حتى حدث من أمرهم ما حدث، فلزم بيته، فعوتب في إتيان الفضل بن الربيع فقال: والله لو عُمِّرت ألف عام، ما وقفت بباب أحدٍ بعد الفضل بن يحيى، ولا سألت أحدًا بعده حاجة حتى ألقى الله، فلم يزل على ذلك حتى مات.
وكان عمرو بن مسعدة، ويُكنى [االفضل: وزرَ للمأمون بعد أحمد بن أبي خالد، وكان من نزاهة النفس وعلو الهمة متشبهًا بالبرامكة، وكان إذا عزم على عمل رسالة شرب ثلاثة أرطال، فصفت قريحته، وانبعثت بديهته: فحكى ميمون بن هرون أن رجلين مرا بقصر عمرو بن مسعدة بعد بنائه إياه، فقال أحدهما لصاحبه، كم أُنفق على هذا القصر، قال: أربعةٌ وعشرون ألف ألف درهم، فقال: تبارك الله وتعالى، هذا قَدِرَ على أربعة وعشرين ألف ألف درهم يصرفها في وجه واحد، وأنا أطلب ثمانية عشر ألفًا لا أقدر عليها، فبلغ قوله عمرًا، فاستقصى عنه وعن سبب أمنيته ثمانية عشر ألفًا، فإذا هو يعشق جارية ثمنها عشرون ألفًا وليس في مَلَكته سوى ألفين، فاشتراها له وجهزها وضمَّه إليه، وكان في جملة ندمائه.
وحضر عنده عبد الله بن طاهر يومًا، فلما وضع الشراب أخرج جاريةً يقال لها " نعمة "، حسنة الوجه، جيدة الضرب والغناء فافتُتِن بها عبد الله وأخذت بقلبه فتصبَّر ولم يظهر ما به، فلما انصرف كتب إلى عمرو:
لعمرك يا عمرو ما بيننا ... إذا حصحص الحق من حِشمةِ
وقلبي، وإن كنت في منزلي، ... بدارِكَ، في راحتي، (نعمةِ)
فبعث بها إليه بجميع مالها من كسوة وفرش وخدم من ساعته.
1 / 19