فقاطعه الثاني: نعم، كانت هذه الزهور كفيلة بهذا، لولا أني رأيت في طريقي إليك صبيا يبيعها، وكان الصبي عاريا جائعا لا يرحمه الراحمون، فقلت لنفسي: أيكون في الدنيا جمال وبين دفتيها مثل هذا البائس المسكين؟!
واتجهت أنظار الصديقين إلي كأنما يستطلعان رأيي، فقلت: ليس لي معكما رأي، غير أني آمنت أن المنطق هراء في هراء، إن تفكير الإنسان متأثر بمزاجه، إن اعتدل هذا اعتدل معه ذاك، وإن مال مال؛ فلا مناص من أن تري أنماط الناس المختلفة أنماطا مختلفة من التفكير، ولا سبيل إلى وحدة الرأي إلا إن اتحد المزاج، وهذا محال؛ فحسبك أن تعلم عن شخص ما مزاجه لتعلم كيف يفكر؛ إن الدنيا لتعرض حقائقها أمام أبصارنا، فينظر كل منا إلى هذه البضاعة المعروضة من ناحية تتفق ونزعته، والعجيب أن كلا واجد منها ما يؤيد وجهة نظره؛ ذلك لأن ميل الإنسان يمسك بزمام انتباهه فيوجهه الوجهة التي يريد، فيرى المتفائل من الظواهر جانبا، ويرى المتشائم منها جانبا آخر، ومن مجموعة ما يرى الإنسان ينشأ مذهبه.
فقال صاحب العقل الحساس لصاحب العقل الصارم - على حد تعبير وليم جيمس: لست أشك في هذا الذي يقوله فلان؛ فلن يصلح أمرك إلا إن طرحت المنطق الصارم جانبا، وبدلت من مزاج نفسك لتصبح قادرا على فهم الوجود فهما صحيحا؛ إنك لن تبلغ حقائق الوجود العليا إلا إن أقبلت عليها إقبالا على غير هذا النحو التحليلي الذي تنهجه، أما إن أصررت على تشريحه بمبضع العقل الجاف فلن تصل منه إلا إلى قمة باردة لا حرارة فيها ولا حياة، وإن أردت لنفسك الخير فاصطنع في ذلك أسلوب المتصوفين.
فسأله زميله: وما ذاك؟
فأجابه: ألا تعمد في فهم الدنيا إلى عقلك وحواسك؛ لأن حقائق الدنيا فوق العقل والحواس؛ إن التصوف يشترط مزاجا خاصا بغيره لا يمكن الفهم، ولا يعتد كثيرا أو قليلا بما عند الباحث من علم ومعرفة.
فقال الثاني: إن كانت حقائق دنياكم فوق مقدور الحواس والعقل، فهي عندي ليست جديرة بمشقة البحث والفهم، إنني أدعو كل شيء أمام محكمة العقل، فإن استطاع أن يبسط نفسه بسطا واضحا فذاك علم صحيح، وإلا فهو نفاية منبوذة لا أقيم لها وزنا ولا قدرا؛ إن هؤلاء الذين يفرون من حكم العقل ليحتموا وراء الإيمان هم طبقة دنيا من المفكرين، هم أصحاب عقول عاجزة لا تملك لنفسها دفاعا من هجمات أصحاب العقول المنطقية الراجحة، إن التقوا بهم في معترك مكشوف؛ هم فئة حرموا القدرة العقلية القوية فتراجعوا قائلين إنه حصرم، وإن حقائق الحياة العليا؛ الله، والنفس، وطبيعة الوجود لا يمكن فهمها بالعقل مهما بلغت قدرته.
فقال الأول: قل ما شئت، وحسبي أن العقل الصرف لم ينتج على مر الزمن إلا فلسفات متضاربة، ولو ركن هؤلاء الأفذاذ إلى البصيرة لكان شأنهم غير هذا الشأن. •••
ثم استطرد الصديقان يتجادلان في شتى نواحي الفكر؛ فصاحب العقل الحساس لا يتصور أن يكون الكون مادة تخلو من الروح، بل الكون عنده نفس كبري كهذه النفس الإنسانية الصغرى؛ إنه لا يطيق أن يكون الإنسان دابة على الأرض لا تربطها بأطراف الوجود أقوى الوشائج؛ فذلك في رأيه يؤدي به إلى عزلة روحية لا يحتملها، وأما صاحب العقل الصارم فلا يريد أن يرى في الكون إلا ما تدل عليه الحواس، مادة صماء، وما هذه الحياة الإنسانية في هذا الخضم الزاخر من المادة إلا فقاعة ماضية عابرة، هي ظاهرة كهذه الظواهر الكثيرة لا أكثر ولا أقل.
وصاحب العقل الحساس يرى في الإنسان كائنا حر الإرادة، عقله يملي وهو ينفذ، ولو لم يكن كذلك ما كانت له قيمته بين سائر الكائنات، وأما ذو العقل الصارم فمن رأيه أن الإنسان لا يملك الإملاء؛ إن الرغبة في شيء ما، تلك الرغبة التي فطرت في طبائعنا، هي التي تريد، والعقل أداة تدبر الطريق الذي يوصل إلى الغاية التي تنشدها الإرادة.
يرى العقل الحساس أن الفكرة إذا امتزجت بالعاطفة وأصبحت شعرا، زاد ذلك من قدرها، وأما زميله فمذهبه أن العاطفة تقلل من شأنها، وخير للفكرة أن تصب في قالب واضح ولفظ مستقيم كالذي تصطنعه العلوم. •••
Página desconocida