لكن قارن هذا بكل من العبارتين الآتيتين: (1)
إن في هذا الصندوق أربع مشقرات. (2)
الإنسان حرارة لها زاويتان قائمتان.
تجد أن العبارة الأولى غير ذات معنى، لاحتوائها على كلمة «مشقرات» التي لا مدلول لها، فلا يعلم السامع ماذا عساه واجد في الصندوق إذا أراد أن يتثبت من صدق ما قاله القائل، والعبارة الثانية غير ذات معنى كذلك، على الرغم من أن كل لفظة منها ذات مدلول متفق عليه؛ لأن الألفاظ قد وضعت في غير سياقها الذي يجعلها ذات معنى.
نحن زاعمون لك الآن أن كل عبارة ميتافيزيقية هي من أحد هذين النوعين؛ فهي إما مشتملة على كلمة أو كلمات لم يتفق الناس على أن يكون لها مدلول بين الأشياء المحسوسة، أو مشتملة على كلمة أو كلمات اتفق الناس على مدلولاتها، لكنها وضعت في غير السياق الذي يجعلها تفيد معناها.
3
لكنني أتحدث حديث الواثق بأن كل قارئ يعلم ما هي هذه الميتافيزيقا التي وضعتها موضع الهجوم؛ كأنني غافل عن حقيقة هامة جدا، وهي أنك قل أن تجد من المشتغلين بالفلسفة أنفسهم من يستطيع أن يحدد لك موضوع الميتافيزيقا تحديدا يوافقه عليه سائر زملائه؛ فإنه لمما يستوقف النظر حقا - كما يقول كولنجوود: «أن فلاسفة كثيرين قد أنتجوا في الميتافيزيقا إنتاجا غزيرا، لكن هذا الإنتاج كله لم يشمل قط مراجعة أساسية للجواب على سؤالنا: ما الميتافيزيقا؟»
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف بين المحترفين، فمن حق قارئي علي أن أقدم له تحديدا مبسطا مفهوما، إلا يكن موضع إجماع من هؤلاء، فهو على أقل تقدير مقبول من كثرتهم الغالبة؛ إذ إنه من الإجحاف بحق القارئ أن نمضي في حديثنا معه عن «الميتافيزيقا» وضرورة حذفها من قائمة المعارف الإنسانية، زاعمين له أن هذا الحذف سيكون خطوة جريئة نحو تخلص الإنسان من أحمال بقيت على كتفيه من عهد طفولته العقلية اللاهية المتعثرة؛ من الإجحاف بحق القارئ أن نمضي في حديثنا معه عن «الميتافيزيقا» وهو لا يدري ما هي ولو على سبيل التقريب.
لقد جرى العرف أن تطلق كلمة «فلسفة» على موضوعات مختلفة فيما بينها اختلافا بعيد المدى، لكنها على اختلافها هذا يمكن تقسيمها قسمين؛ فهي إما موضوعات تحليلية تتناول الألفاظ والعبارات بالتحليل، وتلك هي المنطق وما إليه، وإما موضوعات «شيئية» - إن صح لي هذا التعبير - تتناول «أشياء» معينة بالبحث.
على أن «الأشياء» التي تتناولها الفلسفة ببحثها تعود فتنقسم نوعين؛ فهي إما «أشياء» لا تقع لنا في الخبرة الحسية؛ أي إننا لا نراها بالعين ولا نسمعها بالأذن ولا نلمسها بالأيدي، مثل «المطلق» و«العدم» و«القيم» و«الشيء في ذاته» ... إلخ، وعندئذ يسمى البحث بالميتافيزيقا، وإما هي «أشياء» مما نصادفه في العلوم الأخرى؛ كالإنسان، والمجتمع، واللغة، والتاريخ ... إلخ، لكنها تعالجها بغير الطريقة التجريبية التي تعالجها بها العلوم؛ وعندئذ يسمى البحث فلسفة طبيعية أو فلسفة التاريخ، أو فلسفة اللغة وهكذا.
Página desconocida