وثالثها:
هو أن يقتصر أمر الفلسفة على التحليل اللغوي وحده؛ إنه حين يكون المجال مجال حديث عن العالم وحقائقه فليس للفيلسوف أن ينبس ببنت شفة؛ إذ ليس ذلك هو مجاله، بل هو مجال العلماء، كل عالم فيما يخصه من جوانب العالم، أما عمل الفيلسوف المعاصر فهو توضيح العبارات العلمية، أو بعبارة أخرى عمله هو فلسفة العلم.
فإذا قيل: ولماذا لا يحلل كل عالم ما شاء من عبارات علمه؟ كان الجواب هو أن ذلك ما يحدث فعلا في الكثرة الغالبة، ولكن العالم حين يترك الجانب الإيجابي من علمه ليحلل كلمة فيه أو عبارة فإنما يصبح بذلك فيلسوف ذلك العلم لا عالمه؛ كان برتراند رسل - مثلا - عالما في الرياضة أولا، ثم استوقفه العدد الذي هو أساس الرياضة، استوقفه ليسأل مثلا: ما تحليل العدد؟ ما العناصر العقلية التي سبقت تكوين العدد في فكر الإنسان؟ فكان بهذه الأسئلة والإجابة عنها فيلسوف رياضة لا عالم رياضة، وهكذا قل في وايتهد وإدنجتن وغيرهما من علماء العصر الذين انصرفوا إلى تحليل علومهم، فكانوا منذ تلك اللحظة فلاسفة تلك العلوم.
فالفرق بين العالم والفيلسوف هو فرق في اتجاه السير، فإذا كانت مدركات معينة هي أساس علم معين، ثم جاء من يبني صعدا فوق تلك المدركات، كان عالما، أما إذا جاء من يحفر تحت تلك المدركات ليتبين عناصرها التي توضحها، فإنه يكون فيلسوفا. على فكرة «المكان» يقوم علم الهندسة، وعلى تحليل الفكرة نفسها تدور فلسفة ذلك العلم، وهكذا.
4
وإذا كانت الفلسفة تحليلا لا بناء، فلم يعد الفيلسوف المعاصر يحاول بناء نسق فلسفي شامخ كما كان يفعل أسلافه. كان الفيلسوف فيما مضى يحاول أن يجد المبدأ الواحد الذي منه تنحدر كل أجزاء الوجود، فإذا ما عثر لنفسه على مبدأ كهذا، راح يستنبط منه كل نتائجه حتى يقيم بناء كاملا مغلقا يضم بين جنباته كل ركن من أركان الوجود وكل حقيقة من حقائقه، ثم يأتي فيلسوف بعده، فلا يعجبه مبدأ سلفه، فيبحث لنفسه عن مبدأ آخر، حتى إذا ما وفق بدوره إلى مبدأ - وضعه، وراح يستنبط منه كذلك كل أجزاء الوجود حتى يتم له هو الآخر نسق فلسفي شامل، وهكذا دواليك، وإذن فقد كان العمل الفلسفي عملا فرديا إلى حد كبير؛ فالفيلسوف إذ يبني كان هو المقاول وهو البناء وهو ناقل الطوب وهو عاجن الملاط وهو النجار والحداد وصانع المفصلات والأقفال.
وجاء عصرنا هذا العلمي بفلسفته التحليلية التي يجوز لك أن تسميها فلسفة علمية، فذهب عصر بناء الأنساق الفلسفية، وأصبحت الفلسفة كالعلم عملا جماعيا، يتعاون على كل مشكلة جزئية جماعة متعاونة، تماما كما تفعل جماعة العلماء المتعاونة في المعمل، وانظر إن شئت إلى المؤلفات الفلسفية في عصرنا، فلن تجد فيلسوفا واحدا يخرج المجلدات التي تحتوي على بناء واحد وتفصيلاته كما فعل أفلاطون أو أرسطو أو كانت أو هيجل، بل تجد الكتاب إما أن يكون لكاتب واحد؛ وعندئذ يضم - في كثير من الحالات - مجموعة فصول كتبت في جوانب مختلفة، والأرجح أن تكون هذه الفصول بحوثا نشرت فرادى وعلى فترات وإن يكن بينها رابطة تربطها، وإما أن تجد الكتاب الواحد قد تعاونت على إخراجه جماعة كبيرة من الفلاسفة، كل منهم يبحث الموضوع الواحد من إحدى جهاته.
وإذا شاء القارئ أن أختم له هذا البحث بمثل أو مثلين مما قد وصلت إليه التحليلات الفلسفية المعاصرة، فكان له أبعد أثر وأعمقه، سقت له المثلين التاليين:
فقد أدى البحث في تحليل الجملة الرياضية - حسابا كانت أو هندسة - إلى حقيقة تهولك «ببساطتها» كما تهولك بعمق أثرها في التفكير الإنساني كله؛ ذلك أن التحليل المنطقي للجملة الرياضية قد بين في جلاء أن مثل تلك الجملة يكون دائما تحصيل حاصل، ولا يقول شيئا أبدا عن طبيعة العالم أو أي حقيقة من حقائقه، فإذا قلت مثلا إن 2 + 3 = 5 فأنت لم تزد على أنك قد كتبت رمزا واحدا مرتين في صورتين مختلفتين، أو بعبارة أخرى: فإنك قلت عن الماء إنه ماء!
ومغزى هذا الكشف العجيب عن طبيعة الجملة الرياضية هو أنه لم يعد ما يبرر لنا أن نقول للإنسان مصدرا يستقي منه العلم غير حواسه؛ ذلك أن الفلاسفة العقليين فيما سبق كانوا دائما يحتجون بالرياضة على عدم كفاية الحواس في كسب المعرفة؛ إذ كانوا يقولون: لو كانت الحواس هي المصدر الوحيد لمعرفتنا، فمن أين تأتي الرياضة مع أنها لا تأتي عن طريق الحس؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن كل ما يأتي عن طريق الحس معرض للخطأ لاحتمال أن تخطئ الحاسة في نقلها عن الحقيقة الخارجية، لكن المعلوم عن الرياضة أنها يقينية لا تخطئ، فمن أين جاءنا هذا اليقين فيها؟ كان الفلاسفة يسألون هذه الأسئلة ليجيبوا بقولهم: إنه لا بد أن يكون هنالك عنصر وراء الحواس، ومستقل عنها، وهو العقل، لكن ها هو ذا التحليل قد أثبت أن الجملة الرياضية تكرار! وإذا قلت إن الماء هو الماء فلا شك أنك قد قلت يقينا، لكن اليقين مصدره أنك لم تقل شيئا!
Página desconocida