لقد تعود القراء في مصر أن يروا كتابهم، كبيرهم وصغيرهم على السواء، يتخذون من المجلات (والصحف اليومية) أهم ميدان لأقلامهم، حتى ظنوا أن الأديب هذا مجاله، لكن ليست الحال كذلك في البلاد التي يخصب فيها الفكر ويعمق البحث ويتسع مدى التحليل، في هذه البلاد الغنية بفكرها قد لا يلجأ الكاتب أبدا طول حياته الأدبية إلى مجلة أو صحيفة ينشر فيها مقالا أو سلسلة من مقالات، إنما سبيله الكتاب الكامل؛ قصة، أو مسرحية، أو كتاب يتناول بالبحث موضوعا معينا. إن المقالة الواحدة تكفي الكاتب عندنا لأنه في معظم الحالات أضيق أفقا وأضحل عمقا من أن يحلل فكرته في كتاب بأسره، وما هكذا الحال في معظم بلاد الغرب، وما هكذا كانت الحال في أمريكا، حتى تعسر الرزق في هذه السوق المزدحمة. وأنا أخص بالحديث الآن الكتاب المحترفين الذين لا عمل لهم يرتزقون منه سوى الكتابة، وأما الهواة الذين يكتبون في أوقات فراغهم، فما زالوا بخير يتفرغون لكتبهم ولا يسعون وراء المجلات كل هذا السعي الحثيث.
انتقل الميدان إذن من الكتاب إلى المقالة أو ما إليها، في مجلة تؤجر صاحبها ما يقتات به، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لخف البلاء، لكن المجلات الأمريكية نفسها تغيرت من أساسها تغيرا جوهريا في الأعوام الأخيرة، مما كان له أعمق الأثر على طريقة التفكير وطريقة الكتابة؛ فلم تعد هناك المجلة التي يتسع صدرها لكل شيء، بل أصبح الأمر تخصصا ضيقا، فإما أن تختار المجلة لنفسها طائفة واحدة معينة من الناس تخاطبها وتحدد نفسها بما يعني تلك الطائفة، أو تختار جانبا واحدا من جوانب الحياة تتخصص فيه وقد يهتم بهذا الجانب عدة طوائف؛ فهناك المجلات النسائية، بل هذه نفسها تعود فتتخصص أكثر من ذلك، فترى المجلة النسوية تهتم بالحديقة، أو بأثاث المنزل، أو بالبدع الجديد في أنواع الثياب؛ وهناك مجلات مصورة لا شأن لها بمقالة أو قصة؛ هناك مجلات للسينما، ومجلات لصيد السمك، مجلات لتلخيص الموقف السياسي في العالم، مجلات تخاطب أعمارا معينة، فتسمي المجلة نفسها - مثلا - «السابعة عشرة»؛ أي إنها تخاطب من هم أو هن في هذه السن بما يهتمون له؛ هناك مجلات للمختارات المقتطفة من الكتب أو المجلات ... إلخ إلخ.
وما مؤدى هذا الاتجاه؟ مؤداه أن الكتابة المأجورة لم تعد مقالة أو قصة إلا في القليل النادر ، بل أصبحت فنا آخر، يجمع الدقائق والحقائق عن شيء معين ويحسن عرضها على صفحات المجلة، ولما كان ذلك شيئا لا يقتضي فكرا، بالمعنى الخاص لهذه الكلمة، بل يقتضي فنا صحفيا، فلا بد لمن يريد أن يعيش بقلمه أن يساير الاتجاه الجديد.
وليس معنى هذا أن المقالة والقصة قد اندثرتا، بل معنى هذا أن مركز الاهتمام قد تحول من قطب إلى قطب آخر، لكن سيظل هناك من يضطرب رأسه بفكرة يريد عرضها في مقالة أو قصة، وسيجد لذلك سبيله، لكنه سيعاني في ذلك السبيل ضيقا في رزقه وعسرا في عيشه، وما دمت قد ذكرت المقالة والقصة، فلأذكر تحولا أصاب النسبة فيهما؛ فمنذ ربع قرن كانت نسبة ما ينشر من القصص سبعين في المائة من الكلام المنشور، والثلاثون الباقية في كل مائة كانت للمقالات، وأما الآن فقد انعكس الوضع، وأصبح للمقالة سبعون في المائة من مساحة الكلام المنشور والثلاثون الباقية للقصة، ويؤيد هذا الاتجاه في الأدب الأمريكي أنه منذ سنة 1950م والسوق أروج لغير القصص منها للقصص، ففي العام 1953م، بيع من الكتب العشرة الأولى (أولى في الرواج) من غير القصص ثلاثة أمثال ما بيع من الكتب العشرة الأولى من القصص، كأنما القوم جادون في سؤالهم الذي يلقونه الآن على أنفسهم: أتكون القصة من الأدب أو لا تكون؟
للكاتب في هذه البلاد الغنية صفقة المغبون، حتى لقد أحدث ذلك مرارة في نفوس الكتاب تلمسها منذ العبارة الأولى إذا ما جلست مع أحدهم تتحدث إليه، فإذا كان الكاتب الأديب بطبعه - في كل مكان وفي كل زمان - أميل إلى الثورة على قومه وأشد رغبة من بقية الناس في تغيير الأوضاع والقيم، فالكاتب الأمريكي يضيف سخطا على سخط؛ يتساءل الأدباء والكتاب أحيانا وهم في عجب من أمرهم: لماذا تكون هذه هي حالهم من ضيق الرزق بالنسبة إلى غيرهم؟ ألا تؤدي حرفة الكتابة إلى رواج في سوق الأعمال وتستخدم عشرات الألوف من العمال؟ كم طابع في البلاد يتوقف عيشه على أن يكون هنالك كاتب فكتب ما تدور به المطبعة؟ كم ناشر لولا الكاتب ما كان؟ كم بائع للكتب والمجلات والصحف ينتظر أن تجري الأقلام حتى تكون له سلعة يبيعها؟ كم أمين في المكتبات العامة رزقه قائم على أن تكون هناك كتب يخرجها مؤلفون؟ وبغير الكاتب، ماذا يكون مصير السينما والمسرح والراديو؟ احسب كم ألف ألف من الناس يقتاتون من هذه الحرف كلها يكن لك الناتج الاقتصادي لحملة الأقلام. ألا يكون - إذن - من نكد الدهر أن يكتب الكاتب فيطعم غيره وهو جائع؟ ولا نقول شيئا عن الفكر ومنزلته؛ لأن دنيانا اليوم تترجم الأشياء إلى أرقام لتفهم.
ما خطبهم وهذه حقيقتهم؟ الجواب عند كثير هو كلمة واحدة «نقابة»، ليس لأصحاب القلم نقابة يكون لها من القوة ما لسائر النقابات. إن للطابعين نقابة بحيث إذا لم تعجبهم الحال يوما فأضربوا اهتزت لهم البلاد واستمعت إلى شكواهم في اهتمام. أما هؤلاء الذين يمدون الطابعين بما يطبع فليست لهم هذه القوة كلها؛ فللكاتب الواحد وهو على حدة قوة تضيع إذا ما ضممته إلى غيره من الكتاب بحيث جعلت منهم طائفة، فإذا كان اجتماع الزميل إلى زميله في سائر المهن يزيد الزميلين قوة، فاجتماع الكاتب إلى الكاتب يزيدهما ضعفا، حتى تكون لهم نقابة.
نعم هناك في أمريكا جماعة تسمى بجمعية المؤلفين، تضم سبعة آلاف عضو، ثم انقسمت فروعا؛ فجماعة لكتاب المسرحية، وأخرى لكتاب القصة، وثالثة لمؤلفي الكتاب الفكري وهكذا. لكن «الجمعية» شيء والنقابة المعترف بها شيء آخر؛ فجمعية المؤلفين في أمريكا تبح صوتها بالشكوى، لا تنفك تطالب الناشرين بزيادة في نصيب المؤلف، لكنها تفعل ذلك كله بالمحاجة الكلامية التي إن أجدت مرة فإنها تخفق مائة مرة.
قال «توكفيل» في القرن الماضي يصف أمريكا عندئذ بما كان يجوز له أن يصفها به اليوم: «كل لسان هنا في حركة دائبة، بعضهم ينشد القوة وبعضهم ينشد المال، وفي هذا البحر الزاخر بصخبه ، في هذا الصراع المتصل بين المصالح المتضاربة، في هذا الكدح الدائب وراء الغنى، أين عسانا أن نجد الركن الهادئ الذي لا بد منه لعقل يريد أن يستجمع فكره؟» أخشى أن أقول إن الركن الهادئ المنشود للفكر المطمئن، يتعذر وجوده في أمريكا على رحبها، وعلى من يريد أن يعمق بفكره في هذه البلاد أن يطمئن على عيشه أولا بطريق آخر غير طريق القلم المحترف.
قراءة الكتب
سأعرض على القراء هذه الصفحة الناصعة من أدب «جون رسكن»؛ فهي دعوة قوية جميلة، وجهها هذا الناقد العظيم إلى جمهور من المستمعين، يستحثهم بها على قراءة الكتب الخالدة، ولو كان الشعب الإنجليزي بحاجة إلى أديب يزين له الكتب ويغريه بمطالعتها، فما أحوجنا إلى كل ما انطلقت به ألسنة الأدباء، في كل عصر وفي كل أمة! لعل الدعوة الكريمة أن تلتمس سبيلها إلى قلوب قرائنا، وقد أخذتهم عن الكتب سنة، نخشى أن تعمق وتطول، قال «رسكن» في لغته القوية الرائعة ما معناه:
Página desconocida