وأعود فأنظر إلى إنتاج هذه الصفوة الممتازة من مفكرينا خلال الفترة التي حددناها فألحظ إلى جانب جهادهم في سبيل الحرية بشتى ألوانها، ميلا قويا ظاهرا نحو «التعقيل»؛ أعني نحو أن يقيموا النهضة العربية الحديثة على أساس من منطق العقل، بدل أن يركنوا إلى عاطفة القلب وحدها، وذلك اتجاه - بغير ذلك - نحو ما هو خير وأفضل.
وقد كان لهذا «التعقيل» وجهان؛ الأول اغتراف من المدينة الأوروبية، والثاني مجهود جبار نحو إعادة التراث العربي القديم مصحوبا بدفاع عقلي يحاول أن يبرر له مكانا من ثقافة العصر الحاضر وفكره.
لقد قدمت لهذا البحث بمقدمة أقول فيها بوجوب استبعاد الفكر المنقول ترجمة أو تلخيصا، واستبعاد الفكر المنشور من التراث القديم، لكي نخلص إلى ما هو فكر عربي معاصر، فنتبين خصائصه على ضوء التحليل الصحيح، فإذا ما عدت الآن أذكر اغترافنا من المدينة الأوروبية وإعادة تراثنا العربي على أنهما وجهان لحركة «التعقيل» التي تميز اتجاهنا الفكري المعاصر، فإنما أذكرهما لما نشأ عنهما من «اتجاه» الأنظار نحو وجهة معينة، لا لمحصولهما الفكري في ذاته؛ وذلك شبيه بمن يدير جسدك نحو الشمال - مثلا - ثم يتركك فتمشي في هذا الاتجاه الجديد من تلقاء نفسك، وبالخطى التي تستطيعها قدماك وساقاك.
فلما كان أوضح جوانب المدنية الغربية اليوم هو إنتاجها العلمي - من حيث النظريات العلمية وتطبيقها تطبيقا عمليا على السواء - كان من الطبيعي أن يؤدي اتصالنا بتلك المدنية وأهلها اتصالا مباشرا - أخذ يتزايد زيادة مطردة في القرن الأخير - إلى نقل كثير من علومهم، وإلى اصطباغ التعليم عندنا بتلك الصبغة العلمية إلى الحد الذي استطعناه؛ نقلنا عنهم علوم الطب والهندسة والرياضة والطبيعة والنفس والاجتماع والاقتصاد وغيرها، وفوق هذا كله نقلنا عنهم المنهج العلمي ذاته وأخذنا نطبقه في ميادين جديدة عندنا، إلى هنا نحن ناقلون لفكر غيرنا، لكن أنظارنا قد اتجهت بهذا النقل وجهة جديدة، وهي أن ننظر إلى شتى أمورنا الإصلاحية الهامة نظرة عقلية علمية، فكانت هذه الوجهة الجديدة بغير شك طابعا يميز فكرنا المعاصر.
فها هو ذا - مثلا - مفكر من طليعة رجال الفكر المعاصر عندنا، يكتب كتابا في الشعر العربي القديم، فيقدم له بمقدمة طويلة يزعم فيها أن البحث الأدبي القويم ينبغي أن يقام على المنهج الديكارتي في التشكك وبلوغ اليقين؛ وهذا إمام فكري آخر، يفسر القرآن أو جزءا منه تفسيرا يراعى فيه أن تظهر أحكامه للناس منسقة مع العقل العلمي الحديث، وهكذا وهكذا. وإنك لتقرأ مئات المقالات التي يكتبها قادة الأدب عندنا، فتراهم جميعا يصدرون عن رغبة أكيدة شديدة في أن نلقي بزمامنا في كل أمورنا الاجتماعية إلى منطق العقل دون اندفاع العاطفة.
على أن ذلك ليس شيئا مذكورا في حركة «التعقيل»، بالقياس إلى موجة آخذة في الاتساع والقوة، تميل بنا نحو اطراح الارتجال في تناولنا للأمور العامة كلها، فترانا اليوم في أغلب الميادين الفكرية والعملية على السواء، أميل إلى الأخذ بالمنهج العلمي في شئون الإصلاح؛ فهنالك تجارب في الزراعة وتجارب في التعليم، وهناك إحصاءات رسمية تنبني عليها أحكامنا في شئون الصناعة والتجارة وغيرهما، على أننا بطبيعة الحال لا نزال في أول الشوط، ولا يزال حكم العاطفة يعاودنا آنا بعد آن، لكننا مع ذلك لا نخطئ إذا زعمنا ما زعمناه من أن محاولة الركون إلى أحكام العقل سمة أخذت أخيرا تظهر في تفكيرنا، وهي في طريقها إلى أن تكون طابعا مميزا للفكر العربي المعاصر.
ذلك كله يقال في الأثر الذي تركته فينا حركة النقل عن المدنية الغربية، وبقي أن نرى كيف يظهر طابع «التعقيل» في نشرنا للتراث العربي القديم. إن فتح النوافذ والأبواب أمام المدنية الغربية لم يصادف هوى عند طائفة من الناس ليست بالقليلة الشأن أو العدد؛ فبين ظهرانينا فريق كبير جدا كان يتمنى بحكم تربيته ونشأته أن يكون نهوضنا كله نموا من الداخل ورجوعا إلى الماضي، فلما رأوا بأعينهم أن تيار الحضارة الغربية العلمية جارف يمس أوضاع الحياة كلها، لم يروا بدا من النشاط والحركة في اتجاههم وهو الجري إلى الوراء لاستخراج كنوز الماضي لعلهم يجابهون بها الغرب الدخيل، لكنهم لم يقتصروا في هذا على مجرد نشر القديم نشرا مزودا بالشرح والتعليق - وحركة هذا النشر الآن على أشدها - بل أضافوا إلى ذلك «تعقيل» هذا التراث ما استطاعوا إلى ذلك من سبيل، وأقصد بالتعقيل هنا صياغة القديم صياغة جديدة، لعله يبدو متسقا مع أوضاع المدنية العلمية الحديثة، وإن شئت فانظر كم من طليعة المفكرين اليوم قد شغل نفسه بعرض جديد لأعلام الإسلام وحوادثه البارزة، وانظر كم منهم قد اتجه بقلمه إلى شرح القديم والتعليق عليه، شرحا وتعليقا يقصدان إلى عقل القارئ الحديث بنزعته العلمية وميوله العقلية. ولسنا بحاجة إلى القول بأن التطور الذي أصاب نظام التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية بإضافة المواد «الحديثة» إلى برامجها، هو باب من أبواب «التعقيل» الذي سار في هذا الاتجاه الثاني.
فلئن كان فكرنا العربي الحديث يتسم بطابع «العقل» الذي يحاول كبح جماح العاطفة في شتى ألوانها، إلا أن هذا الطابع نفسه يتفرع فرعين - كما أسلفنا - ففرع منهما يبث في نهضتنا الفكرية «عقلا» خلال ما ينشره من العلوم المنقولة من الغرب، وفرع آخر يفعل الفعل نفسه بوسيلة أخرى، هي عرض البضاعة القديمة في ضوء جديد «معقول»؛ ومن ثم كان هذا الصراع الفكري العجيب عندنا؛ إنه صراع بين الجديد والقديم، لكني أراه يختلف عن كل صراع من نوعه؛ لأن الفريقين لا يختلفان على المعيار الذي تقاس به الأمور، فكلاهما يحتكم إلى منطق العقل، وكلاهما يحاول أن يبين أنه إلى ذلك المنطق أدنى من خصومه، ولو سمحت لنفسي بإبداء رأي شخصي هنا، لقلت إن الفريق الأول يصدر عن منطق أسلم وأصدق، فموقفهم يخلو من التناقض الذي يعيب موقف الآخرين، وموضع التناقض عند هؤلاء الآخرين هو أنهم يأخذون بالأساس نظريا - أعني أساس العقل في الحكم على الأشياء - ثم يجفلون مما يترتب على ذلك من نتائج.
4
قلنا فيما أسلفنا من حديث، إن الدعوة إلى الحرية طابع يميز فكرنا المعاصر، ثم أضفنا إلى ذلك أن الحرية السياسية بوجه خاص، تستنفد الشطر الأعظم من مجهود المفكرين، وأن رجال الفكر في هذا الميدان - لسوء الحظ - ليسوا ذوي أصالة؛ لأن الزمام في أيدي الساسة وهم لهؤلاء تابعون، فنشأ عن ذلك أن باتت الصحف اليومية أوسع ميدان لأقلامهم، ومن هنا تأثرت الحركة الفكرية المعاصرة بالصحافة أبلغ الأثر وأعمقه. وقد ذكرنا فيما مضى أن الصحافة قد عادت على حركتنا الفكرية بالخير مرة وبالشر ألف مرة، وها هنا نعود إلى شيء من التفصيل.
Página desconocida