فقال سيف: نعم قطعة من المرمر الوردي الجميل كانت يوما في جوف صخرة، قد يتخذها حجار ليضعها في جدار بيت، أو تتخذها عجوز فقيرة لتصنع منها رحى أو تربط بها حبل عنزها.
ولكن انظري يا خيلاء كيف حولها صانعها إلى تحفة حية، بل هي أكثر حياة من كثير من الأحياء.
ومضى سيف يقول، وهو ناظر إلى القطعة المرمرية: كأنها قصيدة. فقالت خيلاء باسمة: هي كذلك إذا شئت، أو هي كما أسميها أنا فيما بيني وبين نفسي، أسميها لحظة مسحورة، لحظة من اللحظات التي تمر بالأحياء فتهزهم وتأخذ بمشاعرهم وتنقش على قلوبهم، ثم يثبتها الفنان على قطعة جامدة من الحجر، فإذا هي مثل هذه الصورة التي تسميها قصيدة أو تحفة حية.
فقال سيف في حماسة وإعجاب: صدقت يا خيلاء، وما أبرعها من تسمية! حقا إنها لحظة مسحورة جعلها الفنان تتحدى الزمان والتغير والفناء، وتبقى خالدة ثابتة وإن تبدل كل ما حولها؛ ذهب الفنان الرومي الذي صنعها، وذهب هذان الشابان اللذان كانا يقفان يوما في ظلال البستان المزدهر، ودار القمر دورات لا يحصى عدها، ولكن هذه الصورة بقيت خالدة على وعائها، البستان مزدهر أبدا والطير لا يهبط من سمائه والشابان يقفان باسمين ويشيران إلى البدر الذي لا يعتريه محاق، السعادة التي تغمرهما في مأمن من صروف الدهر. ذهب الجزء الفاني من هؤلاء جميعا وبقيت الصورة تتضمن الجانب الخالد الذي لا يفنى.
وعلى فجأة من خيلاء، رفع سيف يدها إلى فيه فاختطف منها قبلة، وتمنعت خيلاء في رفق فأرسلها وقال في شيء يشبه الاعتذار: لو كنت فنانا لخلدت موقفنا هذا. •••
وهكذا يصور أستاذنا الأديب نفس المعنى الذي قصدت إلى التعبير عنه، وهو أن الفن بأدق معناه احتجاز للحظة من لحظات الزمن، أو تثبيت لفرد من أفراد الكائنات، على أن تجيء تلك اللحظة أو هذا الفرد بخصائصه المميزة التي تجعله فريدا بين الأحياء جميعا لا تكرار له مهما امتد الزمان واتسع المكان وتعددت الكائنات.
الأدب العلمي
قال قائل منا، وكنا أربعة نتحدث عن المحنة التي أحاطت بالأدب في مصر هذه الأعوام الأخيرة، فلم تعد هناك - بحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه - صحيفة أدبية واحدة في وادي النيل المبارك، بحيث جاز لناقد أجنبي معروف في بلده بالصدارة الأدبية، أن يزور مصر فيقول فيها إني وجدتها أمة عدد بنيها اثنان وعشرون مليونا، ومع ذلك فليس فيها صحيفة أدبية واحدة!
قال قائل منا - وكنا نتحدث عن هذه المحنة الأدبية الكبرى: قد لا تكون المحنة أيها الإخوان محنة، فلعل الأمر لا يرتد إلى عجز فينا، بل يرجع إلى مرحلة متقدمة بلغناها من التطور الأدبي. ولم يتمهل محدثنا ليسأله سائل منا: وكيف كان ذلك؟ بل مضى يبسط وجهة نظره قائلا إن الأدب في مراحله الأولية يكون مداره الخيال، حتى إذا ما نهض واستقام على قدميه نبذ الخيال ولاذ بالحقائق والوقائع، أو بعبارة أخرى، إن الأدب إذا ما شب عن طوق طفولته تحولت مادته إلى كلام يشبه ما تنطق به ألسنة العلماء من حيث تقريره للحقائق الواقعة، فإن كان ذلك كذلك، فالحق أن مصر اليوم فيها كثرة من الأدباء الذين يكتبون أمثال هذه الحقائق في لفظ جميل، وإذن فقد ارتحلت فيها راحلة الأدب بحيث جاوزت من طريقها خيال الطفولة وبلغت نضج الرجولة بسلامة الله ورعايته.
وأوشكت أن أجيب بما دار في خلدي عندئذ من خواطر، لولا أنني وجدت المقام مقام سمر خفيف لا يحتمل الأخذ والرد في نظريات وآراء ستفنى الإنسانية قبل أن ينتهي فيها الناس إلى رأي حاسم؛ وذلك لأمور كثيرة، منها أن الأدب ليس علما، ولو كان من العلم أو ما يشبه العلم لانحسمت فيه مواضع الاختلاف في الرأي كما تنحسم بين العلماء في المعامل.
Página desconocida