أما بالنسبة للأشاعرة - كما بيناه في الحلقة السابقة - فإنهم لما رأوا بأن القول بقدم ما بين الدفتين ( القرآن الكريم ) يلزم منه قدم هذه الحروف والأصوات المسموعة وهذا محال ، لأن العلم الضروري بحدوثها لا ينكره إلا مكابر ، وناهيك عن الالتزامات الشنيعة المترتبة على ذلك والممتنعة في حق الله تعالى ، وافقوا خصومهم في أن ما بين الدفتين من ألفاظ وحروف ليس قديما وانما مخلوق محدث ، إلا أنهم زعموا أن كلام الله الأزلي - كما يصفونه - ليس مركبا من هذه الحروف والأصوات وإنما كلامه معنى قديم قائم بذاته كالقادرية والعالمية ، وهذه الحروف والأصوات دلالة عليه ، وطرحوا فكرة الكلام النفسي الذي عبروا به عن الكلام الأزلي في مقابل الكلام اللفظي ليحافظوا بذلك على فكرة أزلية كلام الله وعدم خلق القرآن ، فأتوا بما لا يمكن تصوره أو تعقله ، وما كان كذلك لا يمكن إثباته ، ناهيك عن كون ما ذهبوا إليه يعني أن لله كلاما آخر ( نفسيا أزليا ) غير هذا القرآن ، وهذا الأخير ) الكلام اللفظي المخلوق ( إنما هو دال عليه ، أي أن هناك قرآنا آخر قديما أزليا غير هذا الذي بين أيدينا !!!! .
وبقدر ما كان ذلك الدليل الذي احتج به القائلون بخلق القرآن وأثبتوا من خلاله استحالة أزلية كلام الله وقيامه بذاته - فضلا عن الأدلة الأخرى التي قدمناها في الحلقة السابقة - حاسما وقويا ورصينا كونه مبينا - كما رأينا - على حقائق معرفة عقلية قطعية ( الضروريات ) وبراهين جلية ومن ثم نتائج لازمه وملزمة ، وحسبنا أن علماء الأشاعرة - وهم أصحاب مذهب كلامي متكامل ومستقل ) بخلاف الحنابلة ( وفيهم من فيهم من المتكلمين والفلاسفة وفطاحل العلماء ولا مقارنة بينهم وبين الحنابلة على الإطلاق - أقروا بتلك النتائج الملزمة ولم يجدوا بدا من البحث عن مخرج فقالوا بفكرة الكلام النفسي كما رأينا ، وأخفقوا بذلك في تقديم البديل المقنع الذي يدعم رأيهم ، ناهيك عن الحنابلة الذين تجاهلوا كل ذلك وتجاوزوه فضلا عن الرد عليه ..، بقدر ما حاول هؤلاء وأولئك أن يستدلوا باستدلالات تدعم رأيهم ، ألا أنها كانت ضعيفة بل وبحاجة في نفسها إلى إثبات بحجج وبراهين وقد أجاب عنها خصومهم وفندوها كما سنرى .
....
Página 41