كنت قد صحوت من نومي مبكرا وفكرة السفر والتبعات، التي تنتظرني في القاهرة تطاردني وتلاحقني، منذ أن نمت نوما مضطربا واستيقظت على الآلام المبرحة في الرأس والمعدة، نعم! كانت تبعات ثقيلة كلفني بها الأصدقاء في جمعيتنا الأدبية، ولكنها كانت خفيفة على قلبي وحبيبة، وكنا قد ألفنا هذه الجمعية ورحنا نجتمع كل مرة في مسكن أحد أساتذتنا أو في مسكن واحد منا، نتناقش في الأحوال الثقافية والسياسية ونستمع لقراءات متنوعة: قصائد وقصص ومقالات ومشروعات كتب موعودة، كان كل واحد منا يكلف من قبل الأعضاء أو من ذات نفسه بالمشاركة في هذه اللقاءات، التي كنا نعتبرها المظهر الوحيد لحريتنا بعد أن صادرت الثورة - التي قامت قبل ذلك بسنوات قليلة - جميع الحريات وحلت الأحزاب وأعلنت قوانين الطوارئ، وأحكمت قبضة الاستبداد العسكري على كل شيء وكل إنسان، لم نكن خلية سرية بأي معنى، ولم نكن نعمل تحت الأرض أو نصدر المنشورات، وباستثناء بيان قصير في الصحف أعلنا فيه مطالبتنا بالحرية والديمقراطية، وعودة الأحزاب وحق التعبير الحر، لم يكن لنا أي نشاط سياسي محدد. قنعنا بإثبات حريتنا المحدودة في تجاربنا الشعرية والقصصية والمسرحية والبحثية والتزمنا - في وقت كان فيه الالتزام على كل لسان! - بأن الأدب حرية وأنه للحياة.
كنت قد استطعت في تلك الإجازة القصيرة من عملي الممل بالقاهرة أن أكتب قصتين وأترجم قصتين أخريين عن الإيطالية، التي كنت قد بدأت في تعلمها مع الألمانية وقطعت فيها شوطا معقولا، وكان الأصدقاء - حين شعروا بميولي الاشتراكية المثالية التي يشاركني بعضهم فيها - قد كلفوني بأن أعرض عليهم نبذة عن تيارات الاشتراكية الطوباوية ومدنها الفاضلة ومشروعاتها الخيالية في أواخر القرن التاسع عشر، ثم كلفت نفسي فضلا عن ذلك بأن أتحدث إليهم عن الوجه الإنساني الحر لماركس كما يتجلى في كتابات شبابه، لا سيما في مخطوطاته الاقتصادية الفلسفية التي كنت قد عكفت على الاطلاع عليها في إطار اهتمامي بمشكلة الاغتراب. «كم كنا مغتربين في تلك السنين! كم حاولنا أن نؤكد انتماءنا للحرية وللإنسان العادي الذي كنا على يقين بأنه لا شعر بنا، وربما لن يحس أبدا بوجودنا.»
بدأت على عجل في ترتيب حقيبة ملابسي وكتبي، كل شيء في ذلك اليوم كان ملهوفا ومتسرعا، كأنما يتم مع آخر الأنفاس، رحت أجري بين حجرة مكتبي الصغيرة التي تكدست فيها الأوراق والمسودات وبين حجرة البوفيه بشمعدانها الأثري الجليل الجميل! التي كنا - شقيقي الأزهري وأنا - قد ملأنا رفوف الدولاب الثقيل فيها وأدراج البوفيه نفسه بكتبنا ومجلاتنا المتباينة المشارب والاتجاهات والاهتمامات، انهمكت في اختيار بعض الكتب وبعض أعداد الرسالة التي قدرت أنني ربما أحتاج للرجوع إليها سواء في كتابة مقالاتي أو ترسيخ ميولي القصصية والمسرحية والفلسفية أو لمجرد الرغبة في الاطلاع حبا في الاستمتاع بالقراءة لذاتها لا لأي غرض آخر. رحت أجري، و«بستان» دائم التعثر في رجلي، دائم الشكوى والاستغاثة والأنين بين الحجرتين، أحمل صفوفا من الكتب وأقف لمراجعتها قبل وضعها في الحقيبة، وأستبقي منها أشياء وأستبعد أو أؤجل أشياء لوقت آخر أو فرصة أخرى، كنت لجهلي وغفلتي وغبائي، أعتقد بيقين أنهما حتما قادمان، نادتني أمي من على السطوح، وطلبت مني أن أحضر لأكل لقمة قبل سفري.
قلت لها: إنني مشغول وليس لي نفس، ألحت وكادت بحة صوتها أن تنقلب إلى البكاء، فجريت والتقطت كوب الشاي بالحليب مع ملعقتين من العسل وقطعة من القرص، التي كانت منهمكة منذ الفجر في إعدادها مع الكماج والفطير المشلتت، الذي كنت قد أوصيتها عليه قبل ذلك أكثر من مرة حبا وكرامة لأصدقائي وزملائي، لم أكن في حال تسمح لي بأن أنتبه للعناء الذي بذلته، من قبل أن أصحو أنا من النوم بساعات، في طلوع السلم إلى السطوح لاختيار بطة ودجاجة آخذهما معي مع الجبن والزبد والخبز الصابح والفطائر المتنوعة، بجانب كم لا بأس به من كعك العيد الذي كانت قد ادخرته لي، ذبحت ونظفت وحمرت، عجنت وخبزت وستفت كل شيء في العلب والأكياس، تصبب العرق على جبينها وسالت الدموع الكثيرة من عينيها، وهي تنفخ في نار الفرن والكانون وتعالج وابور الغاز، وتستحثه على التقاط الأنفاس، ولا بد أنها قد تحملت الألم الذي لا يطاق، وأرهقت القلب المرهق الذي أعلن عن احتجاجه قبل ذلك بشهور، عندما لاحظت ولاحظ الجميع تورم قدميها وساقيها، وضرورة الابتعاد عن الإجهاد والتزام الراحة بقدر الإمكان، لكن من أين تأتي الراحة في هذا البيت وهذا العالم، وهي وحدها ولا يسعفها أو يساعدها أحد سوى شغالة صغيرة وجارة عجوز، قد تود عليها من حين إلى حين لتساعدها في الخبيز أو الغسيل، وإن تكن على الدوام غير مضمونة وليس لها عهد ولا أمان، لم أفطن لشيء من هذا كله لأنني كنت مشغولا عنها وعن كل شيء بأفكاري المتسلطة علي والمحاصرة لي حصارا أشد من ذلك الذي كان يضرب في العصور الوسيطة حول المدن التي يجتاحها الطاعون.
5
واقتربت لحظة الفراق والرحيل، أتممت إعداد حقيبتي ووضعت فيها الملابس والكتب والأوراق الضرورية. ألقيت على حجرتي الصغيرة نظرة وداع وحملت الحقيبة، و«بستان» لا يزال يتعثر بين رجلي ولا يكف عن التساؤل والأنين، ووقفت قليلا على بسطة السلم الخشبي المواجه للسطح المسلح، وأنا أنادي: أماه، أنا ماشي، سمعت صوتي وخرجت مزرودة الوجه منتفخة الوجنات من الحر والصهد، وهي تقول ضاحكة مستنكرة: ماشي؟ والسبت الذي أحضره، للعفاريت! أستغفر الله العظيم؟ قلت متعجبا: سبت؟ أنا لم أطلب شيئا يا أمي، هل تصورت أن مصر فيها مجاعة؟ قالت وهي تقترب والشغالة الصغيرة تسحب السبت على الأرض بعد أن تعذر عليها حمله: مجاعة إيه لا سمح الله؟ ربنا يعمر مصر دائما بأهلها، لكن أنت يا ابني وحداني، من يا ترى يغسل لك هدومك وينظف مطرحك ويسوي لقمتك؟ قلت مقهقها: لا تخافي على ابنك، أنا آكل وأشرب والمرتب كاف والحمد لله. سيدة بنت أختك ترسل لي شغالتها مرتين في الأسبوع، تنظف وتغسل وتطبخ وتضع الأكل في الثلاجة، المهم لا تقلقي أنت يا أمي. قالت بعد أن ثبتت نظرتها الصامتة الحزينة على وجهي: يا ترى يا ابني، هل سأعيش حتى أشيل ابنك أو بنتك على صدري؟ أغرقت في الضحك وأنا أقترب منها وأربت صدرها: وتشيلي أولادهم أيضا، لكن بعد أن أنجح في الدكتوراه، صمتت قليلا كأنها تحاول أن تفهم وسألت: وتصبح مثل الحكما؟ ألم تتخرج من الجامعة وتأخذ الشهادة الكبيرة؟! والدكتوراه لإيه يا ابني، قلت وأنا أربت ظهرها: دكتوراه في الآداب يا أمي، يعني دكتور في الجامعة لا في الطب، أنا وزملائي نعمل ليل مع نهار يا أمي، جيلنا والأجيال التي بعدنا لن تستريح حتى تتحقق الثورة الشاملة، فغرت فاها مندهشة وعقدت غضون وجهها وجبينها، كأنما تتذكر شيئا تعرفه أو سمعت عنه، ثورة إيه يا ابني؟ والثورة التي حصلت من سنتين ثلاثة، قلت مؤكدا كأنني أخطب في جمع غفير: ثورة العسكر منعت الثورة الحقيقية، الثورة الإنسانية الشاملة تبدأ من الجذور وتغير كل شيء، جيلنا والأجيال التي بعدنا لا بد أن نحقق هذه الثورة التي تخلصنا من الفقر والتخلف والمرض والتعاسة. قالت بعد أن هزت رأسها وتلفتت حولها في حيرة: ربنا يقدم ما فيه الخير يا ابني، ويصلح الأحوال ويوقف لك ولأصحابك أولاد الحلال يا قادر يا كريم، يالله يا بنتي ننزل السبت على تحت.
تقدمت من السبت الجاثم كالوحش الثقيل على الأرض، قلبت فيه قليلا وأنا أقول محتجا: كل هذا للجائع المحروم؟ ماذا فيه بالضبط؟ وكيف أحمله وأوصله إلى البيت؟
قالت وهي ترفع السبت وأساعدها على وضعه على رأس سنية الصغيرة: لقمة تقوتك يا ابني يومين ثلاثة، فرخة وبطة وقرص وفطير لك ولأصحابك، توكل على الله يا ابني وأي عربة أجرة توصلك للبيت بالسلامة.
نزلت وراء الشغالة وأنا أنفخ من الغيظ، حقيبتي في يدي والوحش الذي لا أستطيع أن أنقله بيد واحدة على دماغ الصغيرة، وبينما نحن ننزل درجات السلم إذا بدق شديد على الباب، فتحت وإذا بجارنا عطية الحلاق يهتف مستنكرا: العربة تنتظرك من مدة والناس ركبها القلق، اترك لي السبت وسأضعه في الدواسة وفي مصر يوصلك التاكسي إلى البيت، يالله يا دكتور توكل على الله. ضربت لخمة شديدة ووجدتني في ربكة وحيرة بين السبت والحقيبة والشغالة والحلاق. وكنت أنت قد سرت حتى الباب المفتوح على الشارع، ووقفت وراء ضلفته المغلقة حتى لا تراك العيون في الطريق.
وتحركت خلف الصغيرة والحلاق وأنا أهتف: على مهلكم، أشوفك بعافية يا أمه. ثم وأنا أنزل سلالم العتبة الثلاثة، وبغير أن ألتفت ورائي أو أنتبه إلى ذراعيك المفتوحتين: مع السلامة، مع السلامة يا أمه.
Página desconocida