نعم يا ولدي نجم، يا من لم تنطفئ كما انطفأت ولم تخمد فيك شرارة المجد والطموح، ها أنا ذا أرى وجهك الصغير المستدير الذي كنت أصفه بملاكي الصغير، لماذا يشتعل بالألم والعذاب كنجم مرتعش في السماء يتقلب في دمه؟ ألا تعلم خيرا مني ألف مرة أن ضوءه لم يصلنا إلا بعد ملايين أو بلايين السنوات الضوئية، وأنه يمكن - مثل كل النجوم - أن يحتضر ويموت؟ أشفق على نفسك يا ولدي الحبيب الذي رجع لبلده ولصدر معلمه بعد غياب السنين، وأشفق على السيدة التي تحبك، وأولادك الذين ينتظرونك، واسمك وسمعتك وشهرتك.
كنت قد دخلت الحجرة التي يرقد فيها على سرير سفري صغير، كأنه مصنوع من عظام حيوان بحري منقرض، وكنا قد نزلنا من الحنطور على عجل، وسلمنا على شقيقه الأكبر حامد الذي يعرفني وأعرفه، ونلتقي دائما في صلاة الجمعة أو في الأعياد والمواسم والمناسبات والجنازات. رأيته ممددا على الفراش وتمليته قليلا، قبل أن أفاجأ به يرمي رأسه على صدري ويحتضنني ويجهش بالبكاء، التفت لزوجته التي بقيت خارج الحجرة، وهي تطل علينا جزعة متلهفة فأغلقت الباب، واحتضنته وبللت خده دموعي كما بلل خدي، منعتني المفاجأة من تأمل وجهه على مهل.
وكدت أتحاشى النظر في عينيه الباكيتين حتى أتمكن من القيام بدور الراعي القديم، كان الوجه صغيرا كما عهدته من قبل ربع قرن أو يزيد، لم يكبر إلا كما يكبر وجه الأرنب الوليد، الذي يحتفظ بخطوطه وملامحه في وجه الأرنب العجوز. أما اليدان المعروقتان والجسد النحيل الطويل، فما زالا عصبيين متوترين وما زالا مصرين على رفض التحنيط القديم أو الحديث!
قلت له: أنت بخير يا نجم، أنت بخير، لم أنسك يا ولدي أبدا، لكنها الأيام والأعمال وتحولات السنين، اطمئن يا ولدي فالدنيا بخير، ولا تتغير كثيرا كما تظن أنت وأمثالك، هل يخفى هذا على عالم الفلك الكبير؟ وهل غيرت شيئا من مسار الكون وقوانينه، أم اقتصر جهدك وجهد العلماء على معرفتها وفهم أسرارها؟ لا تقلق يا بني، لا تظلم نفسك بالحزن ولا تعذبها بالرعشة والبكاء، هذا شيء لا يليق بنجم متألق، يخضع ككل الكواكب والنجوم للسنن الأزلية.
ماذا؟ بالطبع سمعت قبل سنوات عن كشوفك الرائعة، وإن كنت بصراحة قد عجزت عن فهم أسرارها؛ لأني تركت العلم وتركني منذ أن غادرت البلد وهاجرت، وقرأت أخيرا عن تكريمك في بلدك فسعدت، وإن لم تسعفني الذاكرة ولا قصر النظر على التحقق من النجم المحتفى به، أو التثبت من صوره المنشورة في الجرائد، نعم يا ولدي! ضعف البصر وكلت الصحة وزال حتى طموح قراءة الأخبار في الصحف والمجلات. لا أكتمك أن اليأس تسرب إلى دمي وخلايا مخي البليد، منذ أن يئست وترهلت وأصبحت كما ترى، ولكن حدثني أنت عن نفسك! نعم نعم، هكذا أنتظر من نجم العزيز الحبيب. اعتدل وضع هذه المخدة خلف ظهرك، فضفض عن نفسك وتكلم يا بني، أنا أيضا لم أكن أحلم بهذا اللقاء، لم أكن أتصوره ولا في الأحلام. •••
انهمرت نافورة الأحزان القديمة فأخرجت كل ما فيها، تلقيتها في حنان كما يتلقى الوادي الرحب المنبسط سيول الحمم المتفجرة، التي تتساقط من فوهة البركان العالية المتأججة بالخطر والرعب، رجع بي إلى الأيام الأولى التي كنت قد رميتها خلف ظهري وردمت عليها التراب، وأخذ يحدثني عن كل شيء في حياته منذ أن أكل العلقة الساخنة على قدميه؛ أمسياتنا فوق السطوح وأحاديثنا الطويلة عن الفلك والتنجيم والجاذبية والتصوف والعلماء القدامى والمحدثين، فتح لي الأبواب والنوافذ التي أقفلتها إلى غير رجعة بعد أن سلمت رأسي وطموحي لقبضة لقمة العيش، حتى صرت زكيبة لحم متورمة يهددها التعفن والدفن! وعرفت كل شيء عن هجرته إلى كندا ودراسته الطويلة وتفوقه وتكريم العلماء والجمعيات العلمية له، وفرحت لأن بلده تذكرته وأرادت أن تشارك في الحفاوة والتكريم وكلمته عن أهمية العودة للجذور، وبعد أن توهج نجمه فجأة وراح يتكلم عن جولته في حواري البلد وشوارعها، أدركت أن الجذور كانت لا تزال تئز وتغلي باللهب الراقد فيها منذ صباه، خفت أن ترجع النوبة وتنفجر أفظع مما فعلت، فجعلت أصرفه عن ذكرياته الدفينة، وأصب فوقها مياه الدعابة والمرح، وأسرد له القصص والحكايات عن تبلدي واستسلامي للظروف، ونشاطي العظيم في جمع المال والفدادين والعقار من تربية الخيول والعجول والأغنام والمواشي والدجاج والحمام واليمام، وبدأت الضحكة تغزو سحب الغم المتبلدة على وجهه، وهو يرى كرشي المتورم ويتفرس في كتل اللحم والشحم المتدلية من وجهي، حتى أوشكت أن تمنعني من التنفس . •••
هون عليك يا ولدي، هون عليك، تعلم من أستاذك القديم الذي أصبح حجرا صامتا أخرس، حتى لا تحترق بنيران ذكائك وثورتك وطموحك، اطمئن يا ولدي في حضن الكون الذي جبت أبعاده، وغصت في أعماق ثقوبه ودروبه ومجراته، ضع روحك بين يدي الخالق واطمئن. ها هو الإمام في مسجد أبو السعود يقول آمين، والمصلون من أهلك يرددون وراءه بصوت واحد: آمين.
اطمئن يا ولدي واهدأ! عد لزوجك وبنيك وعلمك وكشوفك وردد ورائي: آمين، آمين.
3
وقال عالم الفلك محمود نجم بعد أن ودعه معلمه العجوز محمد علام: لا أدري كيف حدث ما حدث ولا متى ولا كم استغرق من الوقت، كل ما أذكره أنني بكيت كما لم أبك في حياتي، واحترقت كالنيزك الذي يهوي في غيبوبة الخلاء قبل أن يرتطم بالأرض ويتفحم، لا أدري أيضا كيف أمكن أن يظهر أمامي وجهك الأبيض المستدير، كأنه وجه بدر أطل على بئري المظلم، ومد إلي من ضوئه الناعم العذب حبل النجاة، فطفوت على السطح وفتحت عيني وتنفست وتكلمت وضحكت أيضا معك، ربما هتفت باسمك المطور في أغوار الشعور وما تحت الشعور، فسمعته زوجتي الوفية وسألت عنك حتى وجدتك، وربما تذكرت في ساعات محنتي أنني نطقت باسمك كثيرا، ورويت لها أحاديثنا الطويلة ونحن نجرب حظنا مع المنظار العتيق، ونطل منه على حقول السماء المتلألئة بآلاف الزهور، ونحلم بالعمل في مرصد حلوان، وبالتحليق أيضا مع سفن الفضاء، لقد وقعت المفاجأة ورأيتك أمامي، بل تمت المعجزة وألقيت رأسي المدوي كخلية النحل على صدرك، وأطلقت الدموع من محبسها كما أطلقت النكات والصيحات!
Página desconocida