تعالوا معي نتصوره في تلك اللحظة الرهيبة، لعلها لم تكن رهيبة تماما كما تصور هذه الكلمة، فها هو ذا في جلال الحكم وروعته يجلس على عرشه الذهبي المريح، على رأسه التاج المرصع بالجوهر والدر الثمين، وفي يده صولجان الملك المخيف، وفي عينيه نظرة البطل المنتصر أو الملك العادل الحكيم، وها هم أولاد العبيد السود من غابات أفريقيا، أو الصفر من سهول الصين أو السمر من على ضفاف الأنهار في بابل وآشور أو وادي النيل يهزون مراوح الريش على وجهه الملكي الناصع، ويضيفون إلى روعة المشهد رهبة السلطان، وها هم أولاء الوزراء ورجال البلاط والحاشية، وسفراء البلاد الغريبة وأمراء الحرب والأمن، وحكماء المملكة وشيوخها وشعراؤها وعلماؤها ومنجموها يحيطون به من كل جانب.
إنه يجلس إلى المائدة، والمائدة رائعة وحافلة بكل ما يخطر على بالكم من أصناف الطعام والشراب، هل أصفها لكم أم تستطيعون أن تتخيلوها؟ إن أتعس فقراء العالم يستطيع مع ذلك أن يتصور بالخيال ما لم يدخل جوفه ولن يدخله من لحوم شهية محمرة من الضأن والغزال والديكة والحمام، صحاف ذهبية وفضية ملأى بألوان الخضر والفاكهة والحلوى، فنون من الخمر والنبيذ من كل لون وصنف ومذاق، شموع تتألق على المائدة وفي أركان القاعة الفسيحة الناصعة كمصابيح السماء التي ندعوها بالنجوم، وأيد وأفواه مشغولة بتقطيع اللحم وتذوق الحلوى وتجرع النبيذ، وعيون مبهورة بكنوز الأرض الطيبة، وثمارها الحلوة المتاحة، ترتفع إلى الملك الذي يتصدر المائدة، لتشكره على نعمته أو تحسده عليها أو تتمنى بقاءه لكي تدوم أو زواله لتستأثر بها دونه، والملك - كما هو مفهوم - قد نسي فيما يبدو أنه ملك، فعند الطعام تنسى الرتب والألقاب، ويذكر حتى الملوك أنهم معدة جائعة ولحم ينهش لحما، إنه يأكل ويأكل، إنه يشرب ويشرب، قد يرفع يديه ووجهه عن الأكل لحظة ليقلب عينيه في الحاضرين، قد يشير إشارة إلى اليمين أو اليسار، أو يسر بكلمة لوزير أو حكيم، أو يعلق بنكتة لطيفة على مشهد يراه من قريب أو من بعيد، وقد يتوقف قليلا ليشرب على صحة الحاضرين، أو على صحة ملكته أو أولاده أو وزرائه المخلصين، وقد يأمر فجأة بأن يقف الجميع لحظة حدادا على شخص عزيز أو نديم قديم كان يلازمه في مثل هذه المناسبات، أو يميل بأذنه إلى جاره ليسمع الأنباء والشائعات، أو أخبار الأعداء على الحدود، أو أبياتا من الشعر ارتجلها شاعر البلاط المعجب المتخوم، أو نكتة بذيئة يطلقها مهرجه العابث التعس، إنه في قمة مجده وسلطانه، وهو أيضا في ذروة شبابه وعنفوانه، والخير كثير والأحوال طيبة، والملك مستقر وما يأتي من الأيام أفضل مما مضى.
أليست كل هذه المتع ملك يديه وفمه ومعدته؟ أليست بهجة قلبه وعينيه؟ ألا يستطيع أن يمنعها فجأة كما بذلها فجأة؟ أليس في قدرته أن يغضب مرة واحدة فيحول الوزير شحاذا والشحاذ وزيرا، ويحرر العبد ويأسر الحر، ويجلد الجلاد ويقطع لسان الشاعر ويعين الأخرس والأعمى والمخبول في مكان الخطيب والفلكي والحكيم؟ وأي شيء لا يستطيعه ملك الملوك وسيد الأحكام وأمير الشرق والغرب والشمال والجنوب؟ لكنه لا يفكر في هذا الذي لا يفكر فيه إلا الجائعون والمحرومون والعراة، بل يمضي في نهش اللحم كما يفعل وحش منهوم، وينقض على الفاكهة كنسر جارح، ويعب الخمر كالتائه العطشان في الصحراء، هل نضيف أنه يستمتع بلذات أخرى لا نتصورها الآن؟ هل نقول: إنه - وهو يأكل ويضحك ويشرب بصوت مسموع وينثر نكته وحكمه وأمثاله إلى اليمين واليسار - يمتع عينيه بمشهد تقطيع الرءوس؟ رءوس أعدائه بالطبع من أسرى بابل وآشور، أو من الزنوج والعبيد السود أو من ضحايا الصراع بين الجلادين والأسود؟ أم هل نقول: إنه يمتعها بمشهد المغنين والعازفين والراقصات بالصدور والأفخاد والبطون، أم تراه يمتع أذنيه بأبيات ترن في أذنيه بأعذب من رنين الذهب المكنوز من بلاد الأعداء، أو بحكمة يقولها فيلسوفه ومربيه الناصح الأمين، أو نبوءة يرويها عرافه الأعمى العجوز، أو منجمه الذي لا يصدق أحدا سواه؟ ليكن كل هذا صحيحا أو لا يكون، فالمهم أن صوتا واحدا قد عكر صفو المكان، أطلق عاصفة على الحفل المشرق المزدان، أشعل الحريق في قصر الملك أو الخليفة أو السلطان، من أين انطلق هذا الصوت الخشن هادم اللذات! أي رجل ذلك الذي تجرأ عليه؟ إنه كما قلت لكم رجل مجهول، أو وزير البلاط أشفق على الملك من التخمة أو من كثرة الشراب فأراد أن يحذره؟ ولكن كيف يكون وزيرا أو نديما أو قائد حروب أو داهية سياسة وكلهم على ما نعرف من حب النفاق، أم يكون شاعر البلاط أراد أن يطلقه بيتا يخلد مع الزمان ويدونه الكتبة للأجيال؟ ولكن العبارة غير منظومة، ولو قد قالها شاعر البلاط لانقطع عيشه أو رأسه، وكلاهما مجازفة لا يقدم عليها شاعر من الشعراء، أم يكون مهرج الملك الذي يضحكه في كل مناسبة بالنوادر والأعاجيب والحكايات المضحكة والشائعات التي يرويها عن علية القوم أو سفلة الدهماء؟ غير أن المهرج لا يمكن أن يصل بتهريجه إلى هذا الحد، وهو يعرف بطبعه وخبثه أن هذه العبارة سرعان ما تنقلب إلى دعابة سخيفة، والدعابة السخيفة يمكن أن تدفع بالثمن الغالي، أم يكون طفيليا أو شحاذا أو رجلا من غمار الشعب تسلل بحيلة من الحيل إلى قاعة الطعام، ثم زحف بحيلة من الحيل أيضا إلى جانب الملك، حتى وصل إلى مسمع من أذنيه وأسرها فيهما أو أعلنها على مسمع من الجميع، غير أننا نعلم أن المجهولين من الشحاذين ورجال الشارع والمتطفلين أبعد ما يكونون عن بطولة الأبطال، وهم يعلمون بفطرتهم أو يعلمون من شقائهم الطويل أن مثل هذه العبارة لا تناسب المقام، وأنها قد تحرك سيف الجلاد أو نقمة قائد القواد!
نحن إذن لا ندري شيئا عن ذلك الرجل العاقل أو المجنون، والتاريخ لم يقل لنا شيئا عن شكله أو لونه أو طبعه أو منزلته بين الرجال، وليس أمامنا إلا التسليم بأنه لا بد أن يكون قد اقترب من الملك وهو في نشوة الطعام والبهجة والشراب، وأسرها في أذنيه بصوت هامس غير مسموع أو أعلنها فجأة بصوت مرتفع ذي رنين! لكن ماذا تكون هذه العبارة؟ وبأي لغة قيلت؟!
وكيف نطق بها لسانه؟!
هل قالها دفعة واحدة في نفس واحد أو شهقة واحدة كما يبكي طفل فجأة أو كما يصرخ قتيل قبل أن تنفصل رأسه عن جسده أو كما يهتف فارس وهو يغرز الحربة أو السيف في قلب عدوه؟ ثم هل قالها - كما تقول الرواية - للملك أو الخليفة أو السلطان أو الإمبراطور وهو جالس إلى مائدته الفخمة المزدانة بأطيب الطعام والشراب، المتألقة بأجمل الأنوار التي ترسلها الشموع العابقة برائحة المسك والعطور من بلاد العرب والشام، أو لعله قالها لهذا الملك الرائع المجيد وهو يستمتع بمجلس الأنس والطرب ويشنف أذنيه برنين القيثارة وغناء المنشدين، ويبهج عينيه بتأود الراقصات الفاتنات، أو وهو في أوج معركة رهيبة بينه وبين الأعداء، على ظهر جواده الأصيل أو في عربته الملكية البديعة، يرسل سهامه إلى قلوب الفرسان، ويوغل سيفه في رقاب الكفرة، ويصرخ آمرا بقتل النسوة والأطفال، وتعذيب الشيوخ والرجال، وحرق القرى والمدن والأبراج ومخازن الغلال، أو يكون - وهذا فرضنا الأخير - قد قالها له وهو في رحلة صيد في الغابة المعتمة وراء الطيور والوحوش والغزلان، أو وهو يتتبع أفراس البحر أو يصوب حرابه للتماسيح والحيتان؟ نحن لا نعلم شيئا كما قلت، لا نعلم على وجه التحديد ماذا كان مصيره بعد أن قال عبارته؟ ونحن لا نريد أن نلتمس عذرا لتعكيره صفو الملك والمملكة، كما أننا لا نسأل عن الدافع الذي دفعه على قولها، وهي العبارة النزقة الطائشة، لعله تذكر الموت فجأة، موته الخاص أو موت الملك أو موت الحاضرين جميعا في ذلك اليوم الحزين، أو لعل الموت نفسه قد قفز إلى ذهنه أو قلبه دون أن يدري، فتصور الملك والحاشية وسكان المملكة جميعا هياكل فانية أو جثثا عفنة أو كومة تراب، وربما بعد أن قالها بصوته الهامس أو صوته الجهوري، قد لقي العقاب الذي كان ينتظره أو الذي لم يكن ينتظره، فربما أمر الملك الغاضب في ثورة غضبه الملكي العظيم أن يقطع رأسه أمام الجميع، أو ربما أمر أن يلقى في جبه المشهور مع المذنبين والمجرمين والخونة السابقين، أو يربط جسده السمين أو النحيف إلى أربعة خيول قوية شابة فيمزق أشلاء تتناثر في جهات الأرض الأربع! أو ربما - وهذا هو الفرض الأبعد والأخير - قد أطرق في حزن، ومر بيده الملكية الناعمة في شعر لحيته الكثة المهيبة، وترقرق الدمع في عينيه قبل أن يقول له في صوت هامس: معك الحق يا ولدي، فالملوك أيضا يموتون!
نحن لا ندري اليوم شيئا كما قلت، بل لا ندري شيئا عن تلك العبارة المشهورة السيئة الطالع، كل ما ندريه أنها كانت تدور حول الموت، وأنها قيلت للملك أو السلطان أو الإمبراطور وهو في ذروة المجد والحياة، قد تكون كلماتها كما يلي:
تذكر يا مولاي أنك أيضا ستموت في يوم من الأيام! (لاحظ أنه لا بد أن يكون قد ضغط بشدة على هذه الكلمة البسيطة أيضا)، أو قد تكون على نحو آخر مشابه: «تذكر يا مولاي أنك أيضا ستصبح طعاما للديدان!»
وهي صيغة منفرة وغير لائقة، وبخاصة إذا كان الملك وحاشيته على مائدة الطعام، وقد تكون أخيرا على هذه الصورة: «تذكر يا مولاي أن كل الملوك يموتون!»
صحيح أن هذه الصيغة تمتلئ بالحكمة أكثر مما يجب، وأننا يمكن أن نستبعدها على رجل من الشارع أو على وزير، بل قد نستكثرها على الشاعر والحكيم، ولكن ماذا يهمنا من هذه الصيغة المختلفة عليها، ما دامت العبارة قد ذكرت الموت وحذرت الملك من شبحه الجاثم فوق رأسه، وذكرته المصير الذي لم يفلت منه آباؤه وأجداده، وآباء الملوك وأجدادهم ورعاياهم في كل مكان وزمان؟!
Página desconocida