وأحسست بفيض من السعادة وأنا أنظر إلى هذه القطعان التي لا تعرف شيئا عن خط الاستواء، كان ذلك في يوم السوق، وكان دكان أبي في مدخل القرية، يلتقي فيه الفلاحون القادمون من الكفور المجاورة فيطلبون طبقا من الفول، أو يستريحون في الظل، وكنت أعجب لأن أبي يعرفهم جميعا وأعجب أكثر من ذلك لأنه يحبهم جميعا، فلا يكاد أحدهم يدخل الدكان مجهدا من عناء السكة الطويلة حتى يستقبله مرحبا، مناديا باسمه، سائلا عن الصحة والعيال، بل لقد كان يعرف من طلق منهم زوجته، ومن مات ابنه، أو فطست بهيمته أو سرق أولاد الحرام جرنه، كل منهم يجد الكلمة الحلوة عنده: ربنا يعوضك خيرا، كل شيء قسمة ونصيب، الحمد لله على الستر، النسوان ليس لها أمان، والمرأة مثل القطة، تأكل وتنكر، الأمر أمره؛ لهذا كان أبي تاجرا ناجحا، وكل من يحاول أن يفتح مطعما إلى جوارنا تكسد تجارته، ويعزل بعد أيام، كنت في ذلك اليوم مسترخيا في الظل، أراقب ما يجري في السوق، وكان أبي قد سمع كلام الفلاحين، فلم يعد يجبرني على العمل معه، أو يؤنبني على كسلي، بل إنه قد غفر لي كل شقاوتي حين علم أنني عرفت الجهات الأربع، وأنني أضع له سجادة الصلاة ناحية القبلة تماما.
وكنت أتابع وجوه الزبائن يدخلون ويخرجون من دكاننا دون أن أجد بينها ما يلفت النظر - فقد كانوا جميعا كأنهم أولاد أب واحد - حينما وجدت رجلا يقف أمامي ويحملق في وجهي، الحقيقة أنني خفت منه في أول الأمر، وأيقنت أنه لا يمكن إلا أن يكون مجذوبا أو وليا من أولياء الله، كانت شفتاه الدقيقتان، المجروحتان في أكثر من موضع، ترتعشان بصوت خفيض، وكان وجهه شاحبا وصدغاه غائرتين، وعظام خديه بارزة وعيناه المفتوحتان كعيني ذئب جائع، تقاومان جفنين يريدان أن ينطبقا عليهما، وكان العرق ينضح من جبهته، ويسيل في خطوط سوداء متعرجة على خديه، كأنه دماء جمدت من أثر جرح قديم، الحق أنني استغرقت في النظر إليه فلم أتبين كلامه، ولو أنني سمعته حينئذ لقلت له: لا تتكلم، انتظر حتى أشبع منك! وانتبهت على صياح الزبائن من الداخل، وعلى اثنين منهم يندفعان إلى عتبة الدكان ويجذبان الرجل وأحدهما يصرخ مهللا: شوفوا يا جماعة، ابن السلطان!
ويصيح الرجل وهو يضربه على ظهره: والله سلامات، كنت تائها يا عم؟ ويجيء رجل آخر ترك طعامه ليشترك في استقبال الزائر الجديد: من كثرة ما لف في الأرض، قلبها من ظهرها لبطنها، ويضحك الجميع، ويقبلون على الضيف وهم يضحكون ويثرثرون ويأكلون، وكان أبي أكثرهم بشاشة في وجهه؛ لأنه اعتبره ضيفه هو، ترك مكانه وأقبل عليه يربت على كتفه ويتحسس عظم ظهره: والله زمان، هكذا تنسى الأحباب والأصحاب؟ وحشتني، وتنسى مطعم الصدق والأمانة؟ وحشتني قوي.
لبث الرجل جامدا كالتمثال، عيناه ذاهلتان تجولان في وجوه الحاضرين، كأنه يستعرض مخلوقات من فصيلة أخرى، ربما كان يفضل في هذه الساعة أن يستلقي لينام كالميت، ونظر أبي إليه، وفحصه بعينيه فترة قبل أن يقول : ابن السلطان، ما لك؟ فأجاب كأنه لا يفهم: هه؟ فعاد أبي يقول وهو يخبط على ظهره: يعني لا تضحك ولا تتكلم؟
تدخل رجل يمزج الحنان والشوق في صوته: ابن السلطان دائما مسافر، من أين جئت الآن؟
فقال الرجل بدون أن تطرف عيناه: من الشرق، فعاد يسأله وكيف أحوال الرعية؟
ولكنه لم يجب، بل التفت إلى أبي قائلا: عم إبراهيم.
فقال أبي: أمرك يا سلطان.
فعاد يقول في صوت ود لو لم يسمعه أحد: ميت من الجوع، ويبدو أن هذه الكلمة قد لمست قلب أبي، فأسرع إلى الأطباق يعدها، وفي لحظة كان الطعام أمام الزبون الجديد الذي أقبل عليه بنفس مفتوحة، ولما شبع الزبائن من النظر إليه، والحديث معه، بدءوا يتفرقون واحدا بعد الآخر إلى السوق أو البلد، أو القهوة المجاورة.
لم يتح لي في ذلك اليوم أن أتحدث معه، لكنني اعتدت بعد ذلك أن أراه في دكان أبي، فقد كان من الزبائن المستديمين، وكان أبي يخصه بكثير من العطف، ومن الطعام الجيد - وقد يكون العطف في بعض الأحيان عملا تجاريا ناجحا - وكان وجوده يشيع في المكان جوا من الألفة والبهجة والمرح، ولكنه كان في كل يوم يبدو في زي جديد، مرة يلبس عمامة كبيرة، ويتدثر بعباءة فضفاضة كالمغاربة، وحينا نراه وعلى ظهره قربة كبيرة يمر بها على الناس في السوق، وقد أراه على فرس كما حدث في مولد صاحب المقام؛ إذ علمت أنه أصبح من السادة الرفاعية، وأنه قد حمل الراية، وتبعه المريدون، يسيرون في موكب طويل يشق طرقات البلد، ويملأ جوها بدقات الطبول، ورنين الصاجات، وعبير البخور.
Página desconocida