هكذا كان موقع ابن رشد من تيار الفكر العربي الإسلامي في عصره، فأراد له أن يظل على صلته الإيجابية بفلسفة اليونان، وكانت دعوته إلى ذلك هي آخر صوت يرتفع دفاعا عن الفلسفة وضرورة دخولها مع الشريعة في نسيج واحد. ولم يكن الوجدان العربي الإسلامي مهيأ لقبول الدعوة، فانسدل عليها ستار، لم يأخذ في الارتفاع إلا بعد عصره بأكثر من سبعة قرون.
طريقة الرمز عند ابن عربي في ديوان «ترجمان الأشواق»
1
الأصل في الرمز هو أن يجيء لاحقا لما يرمز له، إذ تعرض لنا حالة أو فكرة، نريد تمييزها مما قد يختلط بها، من أشباهها أو أضدادها، فنبحث لها عن رمز يميزها، والأغلب أن تكون الحالة المرموز لها مجردة، وأن يكون الرمز المميز لها شيئا محسوسا يجسد خصائصها ومعناها، ومن ثم كثر استخدام الرمز في الدين والتصوف والشعر والفن، وهي مجالات تختلج فيها بالنفس أفكار ومشاعر يتعذر تعريفها بالحد العلمي الرياضي الحاسم، فيلجأ صاحبها - إذا أراد التعبير عنها - إلى تصويرها في مجسدات مما تألفه العين والأذن وغيرهما من الحواس، وبمقدار ما تكون الموازاة كاملة بين الحالة الباطنية التي نريد إخراجها، وبين الشيء المحس الذي وقع عليه اختيارنا لنرمز به إلى تلك الحالة، تكون العملية الرمزية قد حققت غايتها. وإذن فنقطة البدء الطبيعية في عملية الرمز هي اختلاجة النفس بحالة يراد التعبير عنها، ثم يتجه طريق السير من باطن إلى ظاهر، من حالة وجدانية داخلية، إلى شيء محس في دنيا الأشياء الخارجية.
لكن هذا الترتيب الطبيعي - فيما نرى - قد انعكس أحيانا عند ابن عربي في ديوانه «ترجمان الأشواق»؛
1
لأنه بمثابة من وجد نفسه أمام طائفة من الرموز المجسدة، وأراد أن يلتمس لها من الحياة الشعورية الداخلية ما يصلح أن يكون مرموزات لها؛ فالموقف هنا شبيه بما يحدث بين الشاعر من جهة، والناقد من جهة أخرى؛ ذلك أن الشاعر بعد أن ينبض قلبه بخلجات وجدانه، وبعد أن يسكب هذه الخلجات في صور محسة مجسدة، يعرضها على سامعيه أو قارئيه، يجيء الناقد - أو مجموعة النقاد - فيبدأ السير من هذه الصور الخارجية التي يصادفها في شعر الشاعر، ملتمسا طريقه إلى ما عساها أن تكون الحالات الوجدانية الداخلية التي كانت قد اختلجت في قلب الشاعر حين نظم ما نظم. فاتجاه السير عند الناقد مضاد لاتجاه السير عند الشاعر؛ فهذا ينتقل من باطن إلى ظاهر، وذاك ينتقل من ظاهر إلى باطن. وكثيرا ما يقع الناقد على أكثر من تأويل واحد للرمز الذي يحاول تأويله، فيظل يتساءل: ترى هل أراد الشاعر بهذا الرمز كذا أو كذا من حالاته؟ وما أكثر ما يختلف النقاد في تفسير الصورة الشعرية الواحدة، فهذا يرجعها إلى معنى، وذلك يرجعها إلى معنى آخر؛ لأن المعنى كامن في بطن الشاعر - كما يقولون - ومحاولة الوصول إليه اجتهاد قد يصيب ، وقد يخطئ.
وابن عربي في ديوانه «ترجمان الأشواق» كان شاعرا، ثم كان ناقدا، نظم قصائده، ثم حدث له من الظروف ما حمله على تفسيرها، أعني على أن يرجع بما هو وارد فيها من رموز وصور، إلى الأصل الباطني الذي كان باعثا على خلق تلك الرموز والصور. ولو وقف ابن عربي في الحالتين: حالة كونه شاعرا شعر فنظم، وحالة كونه ناقدا مفسرا يرد النظم ورموزه إلى منبعه الشعوري الخبيء، أقول إن ابن عربي لو وقف في هاتين الحالتين موقفا واحدا، لجاء سيره من الداخل إلى الخارج متطابقا مع سيره من الخارج إلى الداخل، وإن اختلف اتجاه السير في الحالتين، فإذا كانت حالة التنزلات الروحانية قد تجسدت في صورة السحاب الممطر، فما عليه عندما يريد الشرح إلا أن يعود بنا من رمز السحاب الممطر الوارد في القصيدة إلى الحالة الداخلية التي كانت مبعث ذلك الرمز، والتي هي حالة التنزلات الروحانية.
لكننا نرجح أن ابن عربي - في بعض قصائده - لم يقف في الحالتين موقفا واحدا، ففي الحالة الأولى - حالة كونه شاعرا - صدر في شعره عن حب حقيقي لفتاة حقيقية، اسمها «النظام»، وهي ابنة شيخه في مكة، مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجا الأصفهاني، وفي الحالة الثانية - حالة كونه شارحا لشعره - صدر في الشرح والتأويل عن رغبته في أن تكون الرموز الواردة في ذلك الشعر صالحة للتفسير الصوفي، مما اقتضاه في عملية الشرح إعمال العقل وذكائه، وإظهار القدرة على تخريج معان من رموز لم تكن في الأصل مقصودة لها، فوجدناه موفقا في مواضع، متعسفا في مواضع أخرى، كما وجدنا الفرق هائلا بين سلاسة الشعر ودفء العاطفة فيه، وبين التواء العبارة النثرية التي جاءت تشرحه، التواء يوحي بالجهد المبذول نحو صرف المعنى إلى أصل غير أصله. وإننا أمام هذا الفرق البعيد بين وضوح الشعر وغموض النثر، لنكاد نرتاب في أن يكون الشارح هو نفسه الشاعر، كما قد ورد في مقدمة الديوان التي كتبها الشاعر نفسه.
ولو كان ابن عربي قد وقف موقفا واحدا في شعره، وفي تحليله لذلك الشعر، أو لو كان الشاعر هو نفسه الناقد، لما رأينا تأويله لبعض رموز شعره يتخذ صورة «إما ... أو ...» أي لما رأيناه بالنسبة للرمز الواحد يقول إن هذا الرمز إما يشير إلى كذا أو إلى كيت؛ لأن هذا التردد لا يكون - في الأغلب - إلا إذا كان صاحب التحليل والتأويل لا يعلم على وجه اليقين ما كان في بطن الشاعر وهو ينظم، كأن يقول عن «الركائب» إنها إما الإبل وإما السحاب، وعن الغزال إنه إما يشير إلى الغزل مع الحبيب، أو إلى حالة التجريد التي تتناسب مع شرود الغزال في الأرض الفلاة.
Página desconocida