هي مصر.
سقراط :
أليس أولى بنا في هذه الحالة أن نجعل هتافنا: بالروح، بالدم نفتديك يا مصر؟ إن الولاء الصحيح يا أصدقائي لا يكون لشخص بقدر ما يكون لقضية معينة، أو لفكرة، أو لعقيدة دينية، أو غير ذلك مما يحيا من أجله الإنسان، ويشعر ألا حياة له بغيره، ولهذا قال قائل - وربما كان على حق فيما قال - إننا لو حللنا معنى الولاء على حقيقته، وجدناه أساسا للأخلاق كلها؛ لأنه ما من فعل يؤسس على القواعد الخلقية إلا وهو يتجه نحو غاية أردناها وأخلصنا لها.
إن سر الولاء هو أن الفرد الواحد يشعر من عمق وجدانه أنه لا يستطيع العيش وحده فريدا في هذا الكون الفسيح، ويريد أن يجد «آخر» يتحد معه ليوسع من وجوده، فإذا وجد هذا «الآخر» تمسك به وأخلص له، ومن هنا كان الولاء ضرورة حيوية لكل ما من شأنه أن يجعل وجودنا أغزر معنى، وأوسع نطاقا، وأدوم بقاء، فالولاء يكون لله سبحانه وتعالى؛ لأنه مالك يوم الدين، والولاء يكون للوطن الذي بغيره ينعدم أهم أركان الهوية في هذه الدنيا، والولاء يكون لأي مجموعة تمثل فكرة لها دوام، وأنتمي إليها، عضوا فيها، وعاملا مع غيري على تحقيق تلك الفكرة، ولكن قلما يكون للولاء معنى إذا تعلق بفرد آخر، بحيث أفنى أنا ليبقى هو من ذاته، فحقيقة الولاء كما تريان، هي في أن يبقى الفرد بقاء أقوى وأفضل وأنفع. وليست حقيقته في أن يفنى ذلك الفرد الذي يعلن ولاءه. ويبدو لي أن لكل فرد في المجتمع ضربين من الولاء: فولاء للهدف الذي من أجله تعيش مجموعته الصغيرة، كالأسرة، أو الشركاء في عمل معين، وولاء آخر يشترك فيه جميع المواطنين. في الحالة الأولى يكون المطلوب هو ألا يتعارض إخلاص الفرد لأهدافه الخاصة، مع ما يسعى إليه الوطن كله من أهداف مشتركة، وفي الحالة الثانية يكون الولاء موجها في حقيقته إلى الوطن في دوامه، لا إلى أفراد بأعينهم، إلا بقدر ما يعمل هؤلاء الأفراد على دوام العزة للوطن.
الشاب الأول :
أفهم الآن ما تريد، وهو أن يكون شعارنا هو: بأرواحنا نفتديك يا مصر.
وهنا انتقل بي الحلم فجأة إلى مكان آخر وظروف أخرى، إذ وجدتني واقفا في صحن دارنا الريفية، وكان الوقت ما يزال بعد الغروب بقليل، وغسق المساء أخذ في التسلل بخيوطه السوداء، ونظرت حولي وأنا في صحن الدار، فلم أر إلا مقاعد وأرائك تناثرت هنا وهناك في غير نظام، وكنت عندئذ مرتديا من الثياب ما لم أتعود ارتداءه في حياة اليقظة، إذ كنت ألبس جلبابا أبيض وفوقه عباءة سوداء، وعلى رأسي طاقية من الصوف، وما لبثت حتى سمعت صوتا لم أتبين مصدره يقول لي: طلابك ينتظرون في الطابق الأعلى، فصعدت السلم القديم، وفي بهو الطابق الأعلى، وهو نفسه البهو الذي ألفته طفلا وشابا مع تعديل طفيف وجدت الطلاب يتحلقون في دائرة، وكانوا جلوسا متربعين على الأرض المفروشة بالحصير وبالكليم، يرتدون جلابيب ناصعة البياض، عراة الرءوس، وقد عهدتهم في حياة الصحو في ثيابهم الإفرنجية المألوفة، فجلست في الثغرة التي تركوها لي خالية، وبعد ثوان صامتة، بسملت وبدأت الدرس قائلا: كنا نتحدث في المحاضرة السابقة عن الولاء للوطن، وقد حددنا معنى الولاء بأنه دمج الذات الفردية في ذات أوسع منها وأشمل، ليصبح الفرد بهذا الدمج جزءا من أسرة، أو من جماعة، أو من أمة، أو من الإنسانية كلها، ولكن هذا الدمج إذا صدر عن إيمان وإخلاص، وجب على الفرد أن يحميه حتى وإن اقتضى الأمر تضحية بالروح، هذا ما كنا نتحدث به في المحاضرة السابقة. وموضوعنا اليوم هو النظر في الحالات التي تتعدد فيها الولاءات. فماذا نحن صانعون إذا تعارض ولاء وولاء، كأن يتعارض في موقف معين ولاء الفرد لأسرته وولاؤه لأمته؟ وجوابنا على ذلك: هو أن أساس التصرف في حالات كهذه، هو أن نختار الطريق الذي يتيح للفرد تكاملا في شخصيته بدرجة أعلى، فهل يكون إنسانا أكمل إذا هو انتمى إلى أسرة قوية وأمة ضعيفة، أو إذا انتمى إلى أسرة ضعيفة في أمة قوية؟ وأظن الإجابة هنا تكاد تملي نفسها، وهو أن البديل الثاني أفضل وأكمل وأسمى من البديل الأول، وعلى هذا الضوء يا أبنائي أترك لكم الجواب عن هذا السؤال: أيكون الولاء، والتضحية بدمائنا وأرواحنا لمصري أم لمصر؟
فجاء جواب الشباب فيما يشبه الصوت الواحد: إنما الولاء لمصر. وكان صوتهم عاليا كأنه هتاف فصحوت، والمشكلة التي شغلتني ليلة أمس قد وجدت حلها.
Página desconocida