وضربت لذلك أمثلة من حياتي، كان منها ما شهدته في جدتي لأبي، في حالتين من موت أبنائها، كان بينهما نحو عشرين عاما. أما في الحالة الأولى فقد جيء فيها بولدها الذي كان مدرسا في أسوان، وغرق هناك أثناء رحلة نيلية بالقرب من الشلالات، وجاءها جثمانه في قريتنا فقل ما شئت في هلع يبلغ بها حد الجنون، وأما في الحالة الثانية فقد كنت أنا الذي حمل إليها جثمان عمي - وكان موته بالقاهرة - فقرعنا عليها باب الدار بعد منتصف الليل، ولم تكن تعلم من الأمر شيئا، فلما فوجئت بجثمان ولدها الأكبر، لبثت صامتة نحو دقيقتين، ثم صرخت «يا ولدي» وصمتت بعدها عن الكلام طوال الأيام التي مكثناها في القرية لنتولى شعائر المأتم. فالموقفان - كما ترى - متشابهان، لكن جاء رد الفعل فيهما مختلفا اختلاف حكمة العقل من جنون الانفعال.
قلت ذلك كله لأتبعه بسؤال وجهته اليوم لنفسي، وهو: إذا جاء ناشر يطلب منك أن تكتب عما علمتك إياه الحياة، فماذا أنت قائل؟ أهو نفسه الجواب الذي أجبت به في مستهل الخمسينيات؟ فرددت لنفسي على سؤالها، قائلا: نعم، إنه هو هو الجواب، بعد أن أضيف إليه إضافة هامة جدا، وهي إضافة خاصة بالحياة العقلية لمن أراد أن يحياها على صورة صحيحة، وخلاصتها ألا يضيق الإنسان على نفسه الأفق، بأن يقف من الموضوع المعروض للنظر، موقفا يقول به إما ... وإما ... ولا ثالث لهما، في حين أن معظم ما يعرض للإنسان في حياته الفكرية، هو مما يحتمل الجمع بين الجانبين - أو عدة جوانب - التي يظن أول الأمر أنهما لا يجتمعان.
فلقد مرت أعوام، كنت خلالها أنا وزملائي من أساتذة الفلسفة، نعترك اعتراكا علميا حول ماذا تكون النظرة الفلسفية الصحيحة، فكان منهم من يقول إنها النظرة المثالية، ومعناها عند المشتغلين بالفكر الفلسفي أولوية الفكر الخالص على تجربة الحواس، وكان منهم كذلك من يقول إنها النظرة الوجودية، ومعناها أن تكون حرية الإنسان في اتخاذ قراره مكفولة له، ليكون بعد ذلك مسئولا مسئولية خلقية، فالإنسان لا تصنعه العوامل من خارج نفسه، بقدر ما يصنع هو نفسه بما يتخذه من قرارات - بإرادته الحرة - في مواقف حياته المختلفة، وكنت أنا أذهب إلى أن النظرة الفلسفية الصحيحة هي ما يجعل المعرفة العلمية موضوعه الرئيسي، وما يجعل لشهادة الحواس المنزلة الأولى في الحكم على تلك المعرفة بالصواب أو بالخطأ، إلى آخر ما كان بيننا من اتجاهات متعارضة.
لكنني فيما بعد سألت نفسي في لحظة نضج أهي اتجاهات متعارضة حقا، أم هي في حقيقة أمرها اتجاهات متكاملة، بمعنى أن النظرة الصائبة صوابا كاملا، هي تلك التي تجمع تلك الاتجاهات كلها في رقعة واحدة؟ ولقد وضح لي هذا الرأي وضوحا أصبحت معه في عجب من نفسي (وفي عجب من سائر الزملاء في معاركهم الفكرية) كيف سبق إلى ظني أنه إما علم تجريبي وإما لا شيء؟ إن حياة الإنسان فيها عدة جوانب، ولا يتكامل الإنسان إنسانا إلا بها جميعا، فهو يحيا حياة علمية، وهو يحيا حياة فنية خلقية دينية، وهو يحيا مواطنا بين غيره من المواطنين في مجتمع واحد، وهكذا. فإذا كنت قد اخترت فيما سبق اتجاها فلسفيا يهتم بجانب الحياة العلمية، فلم يكن ذلك ليعني ألا يهتم غيري بجانب آخر من سائر الجوانب، التي من مجموعها يتكون الإنسان، فالأمر في هذا شبيه بجماعة من الناس، وقفوا جميعا ينظرون معا إلى منظر واحد، لكن كلا منهم أخذ ينظر إليه من زاويته الخاصة، فأحدهم يفكر لنفسه: هل يصلح هذا المكان لإقامة ملعب للكرة؟ وآخر يفكر لنفسه ماذا لو أحضرت أدواتي غدا وجلست أرسم هذا المنظر، فهو أخاذ بتكويناته وخطوطه وألوانه؟ وثالث يفكر لنفسه متسائلا: كيف لم يحدث له أن يصطاد السمك من النهر الجاري هناك؟ ورابع، وخامس؛ فالمكان الذي ينظرون إليه يسع هذا كله، أفنقول في هذه الحالة إن اتجاهات أولئك «متعارضة»؟ أم الأصوب أن نقول عنها إن بعضها يكمل بعضها؟
ومثل هذا التعارض الوهمي، يقع بين مذاهب النقد الفني، إذ هي في حقيقة أمرها زوايا للنظر مختلفة، يمكن جمعها جميعا لتتكون منها نظرة واحدة شاملة، وفي هذه الحالة يزداد المتلقي فهما للقطعة الأدبية أو الفنية التي هي موضوع النظر، وفي سبيل الشرح الذي يزيد المسألة وضوحا، أوجز هنا ما قد سبق لي أن ذكرته مفصلا في مواضع كثيرة:
إنه إذا ما أنتج أديب أو فنان منتجا من منتجاته، كأن يصدر رواية، أو أن يعرض لوحة، أو معزوفة موسيقية، أو ما شئت من صنوف الإبداع، ثم تعرض ذلك المنتج الأدبي أو الفني للنقاد، أمكن أن يكون لكل ناقد منهم زاوية للنظر، من زوايا أربع: فهو إما أن يجد نفسه مشدودا بحكم شيء في فطرته، إلى أن يستشف من القطعة التي يتناولها بالدراسة النقدية شخصية الأديب أو الفنان الذي أنتجها، فمما لا شك فيه أن المبدع لا يملك إلا أن يصب خصائص نفسه فيما يبدعه، لكن الناقد الذي يلتفت من القطعة المنقودة هذه اللفتة، إنما هو امرؤ يميل بفطرته نحو الكشف عن الجوانب «النفسية»، فنحن لا نخطئ إذا قلنا عنه إن الأدب أو الفن في نظره، إنما هو «وسيلة» لما هو أهم والذي هو أهم، هو الكشف عن حقائق النفس، وبهذا المقياس يكون لعلم النفس عنده أولوية على الأدب والفن.
ولكن الناقد ربما اختار زاوية أخرى، فهو أيضا يريد أن يدرس القطعة المنقودة ليستشف منها شيئا عن الحياة الاجتماعية التي لا بد أن تكون قد أحاطت بالأديب أو الفنان، وهو يبدع ما أبدعه، وفي هذه الحالة نقول بحق - كما قلنا في الحالة السابقة - إن الأدب والفن إن هما إلا «وسيلتان» لما هو أهم، وهذا الأهم هو أن تعرف عن حقيقة الحياة الاجتماعية، فكأننا نقول بهذا إن علم الاجتماع هو الغاية والأدب والفن يخدمانه.
وقد يختار الناقد زاوية ثالثة غير الزاويتين السابقتين، وهي أن يدرس القطعة المنقودة ليستشف وراءها شيئا، ليس هو هذه المرة معرفته لنفس مبدعها، ولا هو معرفته للحياة الاجتماعية التي أحاطت بمبدعها وهو يعمل، بل هو أن يتفرس في حقيقة نفسه هو، ليعرفها عن طريق الانطباعات التي تركتها فيه القطعة المنقودة، وفي هذه الحالة يكون للناقد قدرة الأديب والفنان؛ لأن النقد الذي ينتجه هو في حد ذاته أدب، وكل ما في الأمر أنه أدب استوحاه من أدب آخر.
على أن هنالك زاوية رابعة قد يختارها الناقد، وهي ألا يحاول أن يستشف وراء القطعة المنقودة شيئا؛ لأنها غاية في ذاتها، لا مجرد وسيلة لما هو أهم منها، وعندئذ تكون القطعة المنقودة نفسها هي التي ينصب عليها الجهد النقدي، ما أجزاؤها؟ وكيف ارتبطت تلك الأجزاء بعضها مع بعض؟ أو بعبارة أخرى، غاية النقد في هذه الحالة هي دراسة «الشكل» (الفورم) الذي بفضله أصبحت القطعة المعروضة أدبا أو فنا.
فهل هذه الوقفات الأربع «متعارضة»؟ أو أن الأقرب إلى الصواب في أمرها، هو أن نقول إن كلا منها يجيء إضافة للاتجاهات الأخرى؟ فإذا فرضنا أن قارئا قرأ نقدا لرواية من إحدى تلك الزوايا فقط، فالقارئ الذي قرأ نقدا من زاويتين يكون أكثر فهما لأسرارها، ويزداد فهما لو قرأ نقدا من ثلاث زوايا، ويكتمل فهمه لو قرأ نقدا للرواية من الزوايا الأربع جميعا.
Página desconocida