Dos Historias: La Fiesta de Nuestra Señora de Saidnaya y la Tragedia del Amor
قصتان: عيد سيدة صيدنايا وفاجعة حب
Géneros
إذن، أنت تفضل الموسيقى الغربية.
سليم :
قلت: إنه لا تفضيل في الموسيقى، إنما إذا كنت تريد معرفة رأيي في الفرق بين موقفنا من الموسيقى، وموقف أهل الغرب منها، فإني أصارحك أن شعوب الشرق - خلا الروسيين إذا كانوا يحسبون شرقيين - قد عدلت عن الأسس الموسيقية إلى الألحان الموضوعة، أو هي قد اقتصرت في الموسيقى على طائفة من الألحان لا تجد عنها محيدا، وهذا كان شأن أهل الغرب أيضا، إلا أنه لما ارتقت نفسيات البشر وعقلياتهم، اضطرت الموسيقى إلى مجاراة هذا الارتقاء؛ لكي تعطي المثل الصحيح للعواطف والأفكار الجديدة التي لم تعد الألحان الموضوعة تكفي للتعبير عنها، وقد سبق الغربيون أهل الشرق إلى إدراك ذلك فأحدثوا في الموسيقى تطورا خطيرا، إذ إنهم عدلوا عن الألحان إلى الأصوات المفردة التي هي أساس الموسيقى، فرتبوها، وأدخلوا على الموسيقى الأدب والفلسفة، فضلا عن الشعر، وهكذا استتب لهم إظهار مكنونات النفس الراقية بواسطتها، وهذا ما يجب أن يحدث في سوريا وفي كل قطر فيه شعب حي في نفسيته وعقليته.
إن التقاليد القديمة المستعارة قيدت نفوسنا بألحان محدودة ابتدائية، قد أصبحت حائلا بيننا وبين الارتقاء النفسي، إن في فطرتنا ونفوسنا شيئا أسمى مما تعبر عنه هذه الألحان الجامدة، شيئا أسمى من الشهوات أو العواطف الأولية، إن في أنفسنا فكرا عاطفيا وفهما عاطفيا يتناولان التأملات العميقة في الحياة، والرغبة الشديدة في تحسينها من وجوه متعددة: اجتماعي، قومي، روحي، إنساني، ويدفعاننا نحو مطلب أعلى أليق بوجودنا، يحتاج تحقيقه إلى أنواع من الموسيقى غير الألحان المستعارة الموضوعة لحالة أو حالات نفسية محدودة معينة؛ كحالة الحزن أو حالة التدله في الغرام، فإن نغما وضع لحالة من هذا النوع لا يصح أن يستعمل في حالة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف، كحالة غضب النفس وثورتها على الاستبداد والظلم، أو حالة الجذل والابتهاج، أو حالة التأمل، بل إن لحنا وضع لحالة نفسية منذ نحو ألفي سنة لا يمكنه أن يعبر عن هذه الحالة بعد مرور زمن طويل اكتسبت فيه النفس من الاختبارات ما رقى شعورها، وأكسب الحالة النفسية المقصودة معاني جديدة تحتاج إلى أنغام جديدة لوصفها، فإذا كنا نريد أن تحيا نفسيتنا حياة راقية تقربنا من أكناف السعادة، وجب علينا أن نحررها من ربقة الألحان التقليدية التي لا تغذي إلا العواطف الدنيا، وأن نعود إلى الأصوات نفسها فنسلط عليها فكرنا العاطفي وفهمنا العاطفي، ونستخرج منها موسيقى تغذي كل عواطفنا وكل تصوراتنا، وتظهر بواسطتها قوة نفسيتها وجمالها.
لما أتم سليم عبارته التفت إلى الرفقاء، فوجدت بهيجا وأصحابه قد وقفوا عند أفكار جديدة لم يكونوا قد سمعوا مثلها من قبل، ثم إن أحدهم نظر إلي وخاطبني قائلا: «ما رأيك يا سيد، فيما يقوله السيد سليم؟»
قلت: إني أوافق على جميع ما قال، وأتخذ من حكمه في الموسيقى حكما في الأدب، انظر إلى شعرائنا كيف يحدون العيس في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلا مقلدين؛ لأن حدو العيس ليس من شئون شعبهم ولا من مظاهر تمدنهم، وإلى كتابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادهم جبلية خضراء، إن التقليد قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة، وإني أعتقد أنه لا بد من القيام بجهود جبارة قبل أن تصبح النهضة الأدبية معبرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيء اليوم الذي يتحقق فيه ذلك، وتصير النفسية والعقلية السوريتان الغنيتان بمواهبهما الطبيعية معينين ينهل منهما الأدباء، وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري.»
وبعد صمت قصير انصرفنا، وقد رسخ حديث سليم في ذهني، ولم تزده الأيام إلا رسوخا.
إن الحديث المتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة صديقي سليم، وأرادت أن تتناول عصرا وأمة، والذي أعلمه أن سليما كان قد ابتدأ ينظم سنفونية في انتهاء عهد الخمول، وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري، والصدق يوجب علي أن أروي أن سليما كان يعتقد أن نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن؛ لأنه كان موقنا من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي من وراء ذلك إلى غرض سياسي، بل إلى ما هو أعظم شأنا وأكثر فائدة من الغرض السياسي، إنه كان يرى الفورة السياسية أمرا تافها، إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد، سواء أكان رجلا أم امرأة، شابا أم شابة، أدب حي وفن موسيقي يوحد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح، ولها إيمان اجتماعي واحد قائم على المحبة؛ المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله، أوجدت في وسطه تعاونا خالصا وتعاطفا جميلا يملأ الحياة آمالا ونشاطا، حينئذ يصبح الجهاد السياسي شيئا قابل الإنتاج، وأما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة، فهي شيء عقيم ولو أدت إلى الحرية السياسية.
هذه خلاصة نظرية سليم في تجديد حياة قوم، وهي نظرية الرجل الفني الذي يريد أن يبتدئ في القلوب والأفهام، ولست أشك أنه على صواب، وأن نظريته قريبة جدا من نظرية الاجتماعيين الشعوبيين الذين ينظرون في حياة الشعب الداخلية، ولا يأبهون كثيرا للمجد السياسي، أو يعدونه شيئا لا يتقدم على الحياة الحرة في العقل والنفس، ويرون أن حرية النفس أساس كل الحريات، وهي من هذه الجهة لا تتضارب ونظرية السياسيين الشعوبيين، ولكن السياسيين كثيرا ما يقصرون عن فهمها، لا تتضارب النظرية المتقدمة ونظرية السياسيين الذين يعملون للحرية، ولكنها تختلف عن نظريتهم اختلافا كبيرا، ففي حين أنها لا تنكر أهمية الحرية السياسية لا ترى أن الحياة السياسية أساس الحياة القومية، أو أنها هي الوطنية الكاملة كما يدعي السياسيون.
أما وقد شرحت شيئا من خصال سليم وأفكاره في الفن والحياة، فيجب علي أن أذكر شيئا من أطواره الفريدة؛ لأقرب شخصيته من مخيلة القارئ بقدر الإمكان، ولا شك عندي في أن أطواره نتيجة طبيعية لأخلاقه وعواطفه القوية وإحساسه الشديد، فهو إذا تأثر لشيء كان تأثره شديدا عميقا تاما، لا يكاد يبدو منه شيء في الحال، ولكنه لا يلبث أن يبدو أثره بعد مدة من الزمن؛ لذلك كان من الصعب تتبع حالاته النفسية وفهم عواطفه ومزاجه، ولا أظن أن أحدا غيري تمكن من فهمه ومعرفة كنه أمره؛ لأني كنت الصديق الوحيد الذي لازمه وصحبه في أكثر روحاته وغدواته، ووقف على الحوادث التي كانت تنطبع في ذهنه وهو هادئ ساكن كأنه لا يشعر بشيء مما يجري، وكان سليم يدرك أني واقف على حاله، فكان إذا نظر إلي تبسم تبسم الفاهم الخبير، ولكنه مع ذلك كله لم يكن يحدثني في حادثة واحدة قط، ولا أنا حاولت استطلاع رأيه وسبر غور عواطفه، بل قليلا ما كنا نتبادل النظر في مجرى الحوادث، كأن الواحد منا لم يكن يريد أن يظهر للآخر شعورا يشابه شعوره!
Página desconocida