فلما شاهدت ما كان من فورة الإحساس التي تجرف قلب أمها من أجل باريس ذكرت أن هذا الشاب إن هو إلا أخوها الذي نبذوه بالعراء فوق الجبل لتأكله السباع، وآيتها على ذلك هذا التشابه الشديد بينه وبين أبيها الملك، وحاجها قومها فأحضروا باريس ليطابقوا بينه وبين هكتور، ولكن ما كادت المطابقة تتم حتى أخذته هكيوبا في حضنها الحنون المرتجف صائحة مستعبرة: «ولدي باريس، ابني باريس، ولدي، إلي إلي يا بني!» أما الملك فقد بكى هو الآخر؛ ونهض فعانق ابنه عناقا طويلا حارا، غاسلا جبينه المتلألئ حوله أصدوع الاعتذار عن الماضي البعيد المحزن قطعانه وأوطاهم باريس أن فينوس، ربة الحب والحسن، هي التي هدته، وطمأنهم أبوللو كريم أرومته، خر الملك وأهله لها ساجدين، «لا ترى مثله عين، و... ودخلوا المدينة ...»
لقد عبست عبوسة قاتمة، وحدجت أخاها الغريب بنظرة كالحة، ثم صاحت بالملك: «أبي، لتحذر هذا الأخ! لتحذر باريس، ولتذكر نبوءة الكهنة في معبد أبوللو، ابنك يجر الخراب على مملكتك ويعرض شعبك للدمار وينشر الموت في بيوت رعاياك!»
وهنا ينتقم أبوللو ويسخر من حبيبته الجافية!
لقد تضاحك الملك مستهزئا، وغمزت الملكة ابنتها ولمزتها بكلام قارص، أما هكتور فقد عبث بأخته ومازحها مزاحا ثقيلا.
مسكينة كاسندرا!
حتى الحاشية استهزأت بها وأشعرتها المذلة والهوان!
كل ذلك والرعاة، أصدقاء باريس، ينظرون ويعجبون، ولا يفهمون!
الآلهة لا تكذب!
أفرخ روع باريس إذن، وصدق كل ما ذكرته فينوس!
ها هو ذا يعيش في قصر منيف باذخ؛ وها هو ذا لأول مرة في حياته يخلع هذا الصوف الخشن الغليظ، ليلبس من سندس أبيض وإستبرق، والولدان البيض كالتماثيل يطوفون عليه بأكواب الخمر من فضة وصحاف الآكال من ذهب، وشعب بأسره يطيع أباه ويطيعه، وجيوش تصدع بأمره وأساطيل لجاب تملأ البحر إن شاء أرست وإن شاء أقلعت، وملك وسلطان وتاج وصولجان!
Página desconocida