ولقد ساهمت مدرسة الإسكندرية بأوفى نصيب في درس الإلياذة والأوديسة، وفرغ من تلاميذها الأفذاذ لكلتا الملحمتين عدد عظيم استطاعوا عرفان الزائف من غيره، وكان إمام هذه المدرسة المؤرخ الناقد الكبير أرسطرخوس الذي وضع لنقد الأدب الهوميري قواعده الرائعة.
ويحددون عصر البطولة الذي وقعت فيه حوادث الإلياذة ثم حوادث الأوديسة بالقرنين الثاني عشر والثالث عشر، وذلك أن القبائل اليونانية (الإيونيوية والإيوليوية والدورية) كانت قد أخذت تنهض فجأة وتناضل في سبيل مجدها وتناوئ الحثيين والمصريين على السواء، وكان لا بد لها قبل كل شيء من أن تقهر طروادة المحصنة القوية الرابضة على ضفة الهلسبنت «الدردنيل» الشرقية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أربعة قرون أو نحوها جاء هوميروس ليروي وقائع هذه الحرب في منظومته الخالدة، أو وقائع السنة الأخيرة من السنوات العشر من حصار طروادة - أو إليوم - كما كان يدعوها غالبا.
فالإلياذة من هذه الوجهة قصيدة حربية حافلة بأنباء المعارك، تكاد تسمع صليل القتال وأنت تتلوها. وتكاد تشرف منها على ميدان صاخب ثائر النقع شديد الروع فائر بالدماء، وإذا كنت من رجال الحرب سرتك الخطط المرسومة والخدع المحبوكة، وراعتك هذه الفيالق المجيشة تأخذ أماكنها ثم تتحرك كالموج، ثم ترتد قطعة بعد قطعة وهي في حالتي الكر والفر كالرجل الواحد أو كالبنيان المرصوص، والإلياذة من هذه الوجهة أيضا تصور لك حياة الجند في الثكنات أبرع تصوير وأروعه، كما تصور لك حياة البحارة والرياضيين والرعاة ورجال الجبال، لكنها لا تبلغ من ذلك ما بلغه هسيود في ملاحمه، وذلك ما نرجو أن يوفقنا الله إلى التحدث عنه في كتاب آخر.
الإلياذة وصف قوي لهذه المجازر التي نشبت بين جيل من الناس يسكن في طروادة، وبين جيل مختلف عن جيل طروادة؛ لأنه جيل من أنسال الآلهة وذراري أرباب الأولمب فيما تزعم أساطير اليونان، جيل توالد من تزاوج عجيب بين هذه الأرباب الأولمبية وبين إنسيات فاتنات من بنات حواء، فليس أخيل العظيم ولا أودسيوس ولا أجاممنون ولا منلوس ولا ديوديميد ولا نسطور ولا أجاكس ولا أبطال أخايا
6
جميعا أشباها لهكتور ولا باريس ولا أبيهما بريام ولا لأبناء طروادة؛ لأن الأولين أبناء آلهة والآخرين أبناء بشر مثلنا.
شخصيات عجيبة جدا تلك الشخصيات التي اخترعها هوميروس، فهو لم يكتف بأن صنع للإغريق لاهوتا يعج بكل زوج من الآلهة، بل راح يزاوج بين تلك الآلهة وبين الناس ثم ينسل أولئك الأبطال العظام الذين دوخوا طروادة، وأرووا سوحها بالعزيز الغالي من دماء أبنائها.
فالسيدة هيلين التي بسببها نشبت الحرب، هي ابنة زيوس كبير الآلهة من ليدا التي أحبها الإله الأعظم في غفلة من زوجه هيرا.
وأخيل - بطل الإلياذة - هو ابن بليوس ملك فتيا، لكن أمه عروس الماء الحسناء المفتان ذيتيس، التي استطاعت أن تزلزل قلب الإله الأكبر زيوس بجمالها الساحر، وأن تجعله - وهو سيد أولمب - بعض عبادها، كما استطاعت كذلك أن تسحر قلوب الآلهة الذين أهرعوا من كل مكان ليشاركوا في زفافها ويشربوا النخب في أكواب مما أهدى إليها الصب المدنف إله الخمر باخوس!
وأوديسيوس - بطل الأوديسة - وثاني أبطال الإلياذة، وصاحب فكرة الحصان الخشبي - يتصل بزيوس من أمه مايا - وكذلك ابنه تليماك.
Página desconocida