فقاطعته قائلا: إن في حديثك هذا رنة من تشاؤم الأحدب؛ فلقد سمعته مرة يقول: إن رباط الحب قلما يتحقق في زواج؛ فالزواج دائما يكون حيث لا حب، والحب دائما يكون حيث لا زواج؛ فالحبيبان لا يلتقيان إلا قبل أن تهيأ ظروفهما أو ظروف أحدهما للزواج، أو بعد أن يكون قد تم الزواج من غير الحبيبة أو الحبيب وفات الأوان؛ من هنا رأيت لكل زوج حبيبة كان يود لو كانت له، ولكل زوجة حبيب كانت تود لو كان لها، إنها أضداد تلتقي وتتزاحم، وتلك هي الحياة؛ ذلك ما سمعته من الأحدب المتشائم ذات يوم، وكأني بك تردد صداه.
فصمت إبراهيم قليلا ثم طفق يقول: اسمع يا أستاذ فوزي، إن الداء لا يشفيه كتمانه، ومن الأدواء المفجعة في بنائنا الاجتماعي - وأخشى أن يصدق هذا على أمم الأرض جميعا بدرجات متفاوتة - أن يكون الزواج عقدا يبرمه عقلان ينشدان تنظيم علاقة اجتماعية اقتصادية بينهما، لا رباطا يربط قلبين يتحابان فيلتئمان في قلب واحد لا ينشد شيئا إلا أن ينبض نبضا سليما، وطالما لبثت الحال على هذا الوجه فلا بد للقلوب المكلومة أن تلتمس لها سبلا من وراء ستار . نظام الزواج هو في صميمه اغتصاب يحميه القانون؛ فإما رجل اغتصب امرأة يحبها ولا تحبه، أو امرأة اغتصبت رجلا تحبه ولا يحبها، أو رجل وامرأة يتعايشان ابتغاء مصلحة مشتركة بغير حب من أي من الطرفين.
إن الناس ليكفيهم من الأمر كله سلامة الشكل دون مضمونه ومغزاه، ولي في ذلك خبرات كسبتها منذ الطفولة ولا بد أن يكون لك؛ فها هو ذا رجل يطلق زوجته ثلاثا، وإنهما لفي غربة بعيدة عن الوطن، فتغضب الزوجة عند غير أهل لها؛ إذ لم تكن لها حيلة غير هؤلاء يئوونها، يوما ويوما ويوما، ثم يتفق الوسطاء مع الزوج على رد زوجته، فيجيئون بالمأذون، ومع المأذون ابن له صغير، في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، ويتفق على أن يكون هذا الطفل هو الزوج المحلل لرجعة المطلقة، وتدخل الست أم حامد - فهكذا أذكر اسمها برغم تقادم العهد - تدخل مع زوجها الجديد في غرفة معزولة عند آخر الفناء الفسيح، ويظل الوسطاء من رجال وسيدات ينتظرون، وتخرج الست أم حامد لا تقوى على أن تواجه أحدا بنظرة، ويتضاحك السيدات ويسألنها، فتقص عليهم كيف أخذت هي تلهو بالطفل وهو يبكي في غير فهم لمهمته. المسكينة قصتها بما يشبه الابتسام، ثم ختمتها بمر البكاء؛ لكنها عادت إلى زوجها حلالا بلالا، وذلك هو عندهم زواج!
ولعل امرأة سودانية أخرى كانت على سذاجة الفطرة البريئة، لعلها أن تكون أسلم من هؤلاء نفسا وأصفى؛ لأن لها ولدا يشتغل بقيادة السيارات، أحب امرأة عامل، وعلم الزوج بما بنيهما فطلق الزوجة، لتذهب فتعيش في كنف العاشق بغير زواج، لكن العاشق لم يكفه هذا، بل راح يحمل المعشوقة المطلقة على دراجة بخارية، فتجلس وراء ظهره مطوقة وسطه بذراعيها، وينطلق الفاجر بدراجته وعشيقته أمام دكان العامل جيئة وذهوبا، فتأخذ النخوة من العامل مأخذها، ويهاجم العاشقين في سواد الليل ليقتل غريمه بخنجره؛ فماذا تعمل الأم الثكلى وقد علمت أن معشوقة ابنه تحمل في جوفها حملا؟ إنها تصمم على أن تأخذ المأذون إلى قبر ابنها، ويضحك منها الناس فتقول والدموع تملأ عينيها: مم تهزءون؟ أريد أن أعقد قرانه على قبره، ليجيء ابنه «جني حلال» وهو تصور لا يبعد كثيرا عن تصور سائر الناس لحقيقة الزواج.
قلت: ربما أصبت في أن الزواج غالبا ما يكون شكلا بغير مضمون، لكن للشكل أهميته.
قال: نعم له أهميته في ساحات القضاء، لكن ليس له أدنى الأهمية بحساب المشاعر؛ من لي بهزة عنيفة لأرج الناس رجا فأباعد بين كل ضدين اجتمعا على مصلحة، وأقرب بين كل حبيبين افترقا بحكم الظروف.
وأراد لي الله أن تتأيد عندي فكرة الأحدب، من أن الزواج لا يكاد يجمع إلا الأضداد؛ فقد دعاني فريد على عشاء في منزله بحلوان، ولم تكن قد مضت على زيارتي له إلا أيام قلائل؛ لأنه أراد - كما قال - أن يجدد عهدي بجماعة الإخوان.
كنا تسعة أشخاص، أربعة أزواج وأربع زوجات، وأنا؛ فقد حضر صبري وزوجته فوقية، وتوفيق وزوجته سعاد، وصالح وزوجته سعاد أيضا، وبالطبع كان هناك المضيفان فريد وعفاف، وقد كنت أعرفهم جميعا ظاهرا لباطن وباطنا لظاهر، لكني مع ذلك أخذت تلك الليلة أمعن النظر فيهم زوجا زوجا، وكان حديث الأحدب لي عن تضاد الأزواج ما يزال يرن في مسمعي، ولم أجد عناء كبيرا في أن أصنفهم لنفسي على أساس الميل الغريزي الذي يبدونه في أحاديثهم تصنيفا بعيدا كل البعد عما هو قائم.
فصديقنا فريد، بجنوحه نحو طرائق «أولاد البلد» في عاداته الفردية والاجتماعية، والذي كان بسبب هذه العادات ثقيلا على قلب زوجته عفاف، كان هو الفارس الذي يخطف بلب فوقية؛ لأنها كانت تريد رجلا يهجم على المرأة بغزله الذي لا يراعي فيه الاحتشام المائع، ويكون من ضخامة الجسم طولا وعرضا بمثل ما كان لفريد من ذلك، إنها لا تكف عن الضحك لكل نكتة يقولها، وتتبعه بنظراتها أينما سار وحيثما جلس، ولعلها كانت تقارنه عندئذ بزوجها الوديع المسكين الصامت، بجسمه الطري المرتخي فتقول لنفسها في سرها: ما أبعد المسافة بين رجل ورجل، نعم إن زوجها صبري مهندس لامع، تختاره الحكومة في كثير من لجانها الفنية ، وتملأ صورته الصحف، وإذا تكلم فإنما يتكلم هندسة في هندسة ومشروعات في مشروعات، لكن ما لها هي ولكل هذه البراعة الفنية إذا لم يغزها رجل؟! لا، إن هواها كله مع فريد، ولا أدري إن كانت عفاف قد أدركت ما بينهما، لكني أشعر أن لو أدركت لكان لسان حالها يقول: تفضلي هنيئة به! وأما صبري في وداعته واستكانته وصمته والتزامه جانب الحذر فما كان أنسبه لإحدى السعادين، فسعاد وسعاد في هذه المجموعة بينهما ما بين السماء والأرض من تباين؛ إحداهما انطفأت في عينيها جذوة الحياة، وخمدت في وجنتيها شعلة الجنس، وأصبحت في حركتها المقيدة المكبلة كأنها التمثال الشمعي؛ لا تنطق لفظة إلا وقد حسبت حسابها، فلماذا لا ينظر إليها صبري المهندس بعين الإعجاب، أين كانت هذه الوداعة القانعة العاقلة المتزنة يوم أراد الزواج! ... ولكن من ذا يكون زوج سعاد هذه؟ إنه صالح الغارق في مجونه إلى أذنيه، الذي لم يكن يريد في دنياه إلا امرأة تقدر لذة الحياة الماجنة وتفهمها دون أن تدخل في الأمر قواعد الأخلاق ومستويات الحضارة والتهذيب، يعلم عنه أصدقاؤه المعاصرون له والمسايرون له في أطوار الحياة، أنه أيام شبابه لم يتورع عن فعل يشتهيه بغريزته، مهما تكن العوائق في سبيل أدائه؛ لم يتورع أن يتعلق بمؤخرة عربة نقل في الطريق إذا كانت عليها امرأة يريد مضاحكتها، لم يتورع أن يلبس ثياب أبيه العربية، جبة وقفطان وعمامة ليسير بها في زحمة المولد والمسبحة في يده، ليفاجئ أسر الفلاحين بزعمه أنه مواطن لهم من بلد قريب من قريتهم، وأنه يعرفهم فكيف لا يعرفونه؟ فتقع الأسرة الريفية: زوجا وزوجة، في حيرة وربكة، وعندئذ يوجه سهامه إلى الزوجة إذا لمح فيها مسحة من جمال الريف؛ لا، إنه لم يتورع عن فعل مهما يكن فيه من جرأة مرضاة لشهوته، فإذا نجح كان بها، وإلا فهو «فصل» طريف يروى للأصدقاء في جلسات السمر؛ أيكون هذا الفاجر هو زوج سعاد التي لا تحرك يدا ولا قدما إلا بحساب؟ نعم إنها بهذا السكون المميت قد قتلت حيوية جسدها قتلا، وكان يمكن أن تعد من الجميلات، لكن فكرة الأنوثة بكل خصائصها من جمال أو قبح لم تعد ترد على خاطر الناظر إليها؛ فهي تمثال شمعي كالتماثيل المعروضة في متاحف الشمع، تقف أمامه لا لتسري الحيوية منه إليك ومنك إليه، بل لترى إلى أي حد يشبه التمثال صاحبه، وكذلك تنظر إلى هذه المرأة الساكنة الميتة لتنظر إلى أي حد هي تشبه الإنسانة الحية؛ فأين هذه الزوجة من زوجها الجامح؟! إنها ربما صلحت زوجة لصبري المهندس، فيلتقي هدوءه بهدوئها، وصمته بصمتها، وهموده بهمودها، فيكون شن قد وافق طبقه كما يقول المثل العربي القديم؛ أما أن يقع صبري النعسان على فوقية اليقظانة الصاحية، وأن يقع صالح الداعر على سعاد الراهبة، فذلك كوقوع الضد على ضده؛ فلا بد لأحد الضدين أن يفر التماسا لأشباهه.
ولم يكن صالح بحاجة إلى شطح بعيد ليجد بغيته على بعد قدم واحدة منه أثناء تلك «السهرة» الصاخبة؛ ففي الجماعة سعاد أخرى قد لا يدل ظاهرها على حقيقتها إلا لمن كان ذا عين بصيرة بالنساء كعين أخينا صالح؛ فسعاد الثانية هذه قد تبدي لك سحنة مستعلية على الرجال؛ تجلس واضعة ساقا على ساق، معتدلة بظهرها، مجيبة من يحدثها إجابة المالكة لزمام نفسها، لكن وراء هذه الصلابة الظاهرة أمنية ترقد في أعماق طبيعتها، وهي أن تجد الرجل الذي يعرف كيف يدوسها بقدميه من جانب الغريزة فيها، شريطة أن يبقي لها مكانتها فيما بقي بعد ذلك من جوانب؛ وهي تظن - كما يبدو من لمحات عينها ومن فلتات لسانها - أن الداعر صالح ربما استطاع أن يكون هو الرجل الذي يقيم الميزان الصحيح بين قتلها في ناحية وإحيائها في ناحية؛ لأنه كان وهو يتحدث إليها بكلمات مسموعة أحيانا وبوشوشة مهموسة أحيانا، يلعب على الحبلين، فتوقير في اللفظ والمعاملة كأنه إمام المهذبين وبريق في عينه المتأرجحة في محجرها يبعث إليها الإشارات التي تكاد تنطق لها بما كان يستطيع فعله لو ظفر بها.
Página desconocida