63

ويكر شريط الصور في رأس إبراهيم وهو على سفينته؛ من هناك صورة ومن هنا صورة:

هذا هو الوزير الإنجليزي «نويل بيكر» يقف في الصف وفي يده فنجانه ينتظر دوره ليملأه بالشاي، وأمام رجل يرتدي رداء سعاة الدواوين، فلا الوزير يفكر في التقدم قبل دوره، ولا الخدم من أمامه يفكرون في التنازل عن مواضعهم؛ فالساعة ساعة الراحة له ولهم بين جلسات جمعية الأمم في أول انعقاد لها في لندن - قبل رحيلها إلى نيويورك - وتذهب هذه الصورة لتحل محلها صورة الوزير المصري الذي كان ينتظر منه ألا يكون كسائر الوزراء عنتا واستبدادا؛ لأنه كان - دونهم - إماما بيننا من أئمة الأدب والفكر والحركة الحضارية بصفة عامة؛ ومع ذلك فقد رأيته وهو على كرسي الوزارة كيف يتعنت وكيف يستبد، كأنما أصحاب الحقوق الواقفون أمام بابه حفنة من الغنم، بينها وبين الراعي الأكبر صفان طويلان من الذئاب، على نحو ما كان المصريون الأقدمون يقيمون صفوف الأسد أو الكباش أمام المعابد لتحرسها من هجمات الشياطين.

ويعض إبراهيم على شفته بأسنانه عضة من اعتزم أمرا، وألقى بالورقة التي كانت في يده إلى موج البحر الصاخب، فما تزال السفينة تنقذف بين الموج الثائر من قمة إلى وهدة فإلى قمة من جديد، والرذاذ يلطم وجهه وصدره كأنه الرصاص، وصرعى الدوار من حوله صفر الوجوه كأنهم الموتى في وباء كاسح، لقد اعتزم الدكتور إبراهيم في تلك اللحظة ألا ينزل لأحد بعد اليوم قيد شعرة عن كرامته؛ لقد أحس بفرديته وقد انتفخت، وصمم على أن يقف بها عند عودته كما يقف الجبل الأشم من رءوس الناطحين. •••

عندما سافر إبراهيم الخولي إلى إنجلترا دارسا. كانت تعتمل في نفسه قوتان متصارعتان: إحداهما إرادة مصممة على بلوغ الهدف مهما كلفه ذلك من عناء، والهدف المقصود الذي أخذ يسعى إليه منذ صدر شبابه، هو أن يكون له دور ملحوظ في الحياة العلمية والثقافية؛ وأما الأخرى فهي حالة دفينة من اليأس أن يحقق هو نفسه مما أراد شيئا؛ فهو عندما سافر كان بالفعل قد بذل جهودا لم يعرف مداها إلا هو؛ وأما أقرانه وأصحابه ومن كانوا يكبرونه ومن كانوا يصغرونه، فلم يكن أي منهم على دراية بما بذله إبراهيم؛ فكل من هؤلاء قد يعلم عنه شيئا وتفوته تسعة أشياء، وحتى الذين عرفوا عن جهوده ذلك القليل، فقد ندر منهم جدا من حمل له التقدير، أو ربما حمل التقدير في نفسه سرا مكتوما ولم يفصح عنه بالقول أو الكتابة.

كان إبراهيم يعلم ذلك جيدا، وكانت تغمره موجة القنوط آنا بعد آن، لكنه بالقوة الأخرى في نفسه ينهض من قنوطه ليعمل، وليكن بعد ذلك ما يكون، وفي إحدى لحظات اليأس - وهو في لندن - خرج عصر يوم من أيام الآحاد لينشق الهواء في هايد بارك؛ وهايد بارك متنزه فسيح يقع في قلب مدينة لندن، له خصائص يتميز بها في أذهان عارفيه؛ منها هؤلاء الخطباء عند مدخله، يرتقون المنابر ليخطبوا في أي موضوع شاء الخطيب أن يتحدث فيه، وليسمع من أراد من رواد المتنزه أن يسمع، والأغلب أن يتحلق حول كل خطيب مجموعة من هؤلاء الرواد - تقل أو تكثر تبعا لموضوع الحديث - وهم إنما يتحلقون حول الخطباء تفريجا عن أنفسهم، وإزجاء لأوقات فراغهم، ولكن إبراهيم إذ قصد إلى هايد بارك عصر ذلك اليوم، فإنما أراد الهواء النقي ولم يرد أحاديث الخطباء، غير أن شيئا لم يكن في حسبانه غير وجهته؛ وأترك لإبراهيم نفسه رواية ما حدث: ... استوقفني من الخطباء منظر عجيب: خطيب من هؤلاء رأيته قائما على منبره يخطب ولا من سميع! لم يقف أمام الرجل إنسان واحد يستمع إليه، ومع ذلك مضى المسكين في خطابه، يرفع صوته ويخفضه، ويشير بيمناه تارة وبيسراه طورا، وينحني ويستقيم، ويضرب النضد الصغير الذي أمامه بيده، مقبوضة مرة مبسوطة أخرى، دنوت منه، ووقفت إزاءه، أنظر إليه، وما هو إلا أن طاف برأسي خاطر عجيب؛ إذ خيل إلي أني أنظر إلى نفسي في مرآة، وإنها لفرصة نادرة الوقوع أن تجد لنفسك مرآة تصورها لك فتهديك بعد ضلال، فما أهون أن تنظر إلى وجهك في مرآتك، لتصلح ما اختلط من شعرات رأسك، وتهذب ما هاش من شاربيك، لكن أنى لك مرآة تجلو أمام ناظريك ما خفي من شعاب نفسك، لتصلح منها ما اعوج إن كانت بذات عوج، أو لتزهي بها أن كانت قمينة بالإعجاب، ولقد رأيت في ذلك الخطيب مرآة لنفسي، وأخذت دقة الصورة تزداد في عيني جلاء ووضحا، فابتسمت ثم ضحكت في نبرة مسموعة.

قال الخطيب: ما يضحكك يا صاحبي؟

قلت: يضحكني أننا شبيهان.

قال: شبيهان؟!

قلت: نعم؛ وليس الشبه في هيئة الجسم؛ فكلانا يبعثر في الهواء طاقته؛ كلانا يبذل الجهد، فيذهب الجهد أدراج الرياح.

عجيب هذا الضوء الذي تلقيه تجارب الأيام على القول المكرور المعاد! فقد تردد العبارة الواحدة ألف مرة، وتحسب أنك قد فهمت معناها؛ لأنك عرفت معاني ألفاظها كما تشرحها القواميس، فإذا بك تنطق بها مرة أخرى فتلمس فيها حياة نابضة لم تعهدها من قبل، فكأنما أشرق عليك منها معنى جديد؛ لأنها في هذه المرة كانت قطعة من حياتك وقبسا من روحك، ولم تكن ألفاظا مرصوصة يقولها الناس فيرن صداها بين شفتيك؛ فكم رددت مع الناس قولهم: «لا في العير ولا في النفير»، ولم أكن أدري أنني إنما أرددها ترديد الببغاوات عن غير فهم حي صحيح، حتى قلتها منذ قريب فأحسست لها هزة تشيع في وجودي، وأدركت أنها لم تعد مثلا يقال، بل أصبحت جزءا من صميم الحياة؛ وحدث مثل ذلك حين قلت لصاحبي الخطيب إننا نبذل الجهد، فيذهب الجهد أدراج الرياح. ... أرأيت يا خطيب الهواء سيارة أمسكها الوحل فأخذت عجلاتها تدور، وهي في مكانها لا تتحول! لو كانت هذه السيارة تنطق لزعمت لك أنها طوت من الأرض فراسخ وأميالا؛ لأنها تحس في حر أنفاسها حرارة الجهاد، وتحس عجلاتها تدور؛ فهيهات أن يقع في ظنها أنها تدور في غير سير إلى أمام، إيمانا منها بأن ذلك ضد طبائع الأشياء، وما تدري أن هذا الوحل الذي يأذن لعجلاتها أن تدور ثم يمسك جسمها عن السير هو أيضا من طبائع الأشياء.

Página desconocida