فقد كانت تلك السنوات الأربع (1926-1930) هي البوتقة الحقيقية التي صهرتنا بخيرها وشرها، وهي التي شكلتنا فيما نحن فيه؛ ففي تلك الفترة تجسدت لكل منا مثله العليا التي يريد احتذاءها، وقد كان مثلي الأعلى يومئذ مزيجا من عدة عناصر، قد يسهل التقاؤها معا وقد يصعب؛ فهو مثل أعلى فيه جانب الأستاذ الأكاديمي المتمكن من مادته، وهو جانب انطبع في قرارة نفسي انعكاسا لشخصية أستاذ التاريخ الحديث شفيق غربال ؛ وفيه جانب الأديب صاحب الصوت المسموع والمواقف الثقافية الحاسمة، كما طبعني به الدكتور طه حسين؛ وفيه جانب الأديب المفكر المكافح الذي يدفعه الفهم العقلي إلى سكب ثقافات الأولين والآخرين - إذا استطاع - في ذات نفسه، كما كانت صورة العقاد عندي أيامها ... فهل كان يسهل لهذه الجوانب كلها أن تجتمع في شخص واحد ولو بمقادير متواضعة، شريطة أن تجتمع عند من يغلب عليه التواضع الاجتماعي، كما تغلب عليه الرغبة الشديدة في الانعزال والتخفي؟ لست أدري، لكن الذي أدريه هو أنني وجدت عسرا شديدا في محاولة جمع هذه العناصر معا، فكنت إذا حصلت شيئا من جانب الأستاذ، أفلت مني جانب الأديب، وإذا تحقق لي جانب الأديب ضاع مني عنصر الأستاذ، وإذا تحقق لي شيء من هذا وذاك وجدت نفسي أقف على الطريق جامدا لا أتحرك في دنيا الناس خطوة إلى أمام.
فهل عرفت يا صديقي سر الشعور بالخذلان الذي أعاني منه حتى ظهرت آثاره على بدني؟ لقد رأيتك تسعى لاهثا لكشف السر، ولعلي قد أرحتك في كثير مما أردت أن تكشف عنه الستار.
الفصل الخامس
حلم ليلة في منتصف الصيف
انقطعت صلتي بالأحدب لبضعة أسابيع، ولم تكن نفسي قد اطمأنت - كما ظن هو - بما رواه لي عن نفسه خلال الأربعة الأعوام التي قضاها في الدراسة العليا؛ لأن ما رواه لي لم يكن فيه ما يكفي لكشف السر كله وراء حياته الانفعالية بما سببته له من علل.
ثم أسعفتني مصادفة سعيدة؛ أخذت القطار إلى الإسكندرية ذات صباح من صيف، وجلست في مقعدي الذي أختاره لنفسي دائما ما وجدت إلى اختياره من سبيل؛ لأنه مقعد فرداني من جهة، ويتجه الجالس عليه مع سير القطار من جهة أخرى، وفضلا عن ذلك فهو يواجه مقعدين يغلب أن يشغلهما زميلان فيتحدثان، فأتسلى باستراق السمع لما يقولان من جهة ثالثة.
ولم أكد أنشر صحيفة الصباح بين يدي قبل أن يتحرك القطار، حتى فوجئت بما لم أكن أتوقع حدوثه؛ وهو أن يكون شاغلا المقعدين اللذين يواجهان مقعدي هما صديقي القديم فريد - صديق الشباب - وزوجته عفاف، وكنت لم أرهما ولم أسمع عنهما منذ أمد طويل؛ فاضطربت لرؤيتهما؛ لأن اللقاء مباغت؛ فأسقطت عند قيامي لأسلم عليهما حقيبة صغيرة كان يرفعها فريد ليضعها على الرف، ولبث ثلاثتنا يتحركون ويتكلمون في غير هدوء ولا انسجام، حتى لقد سددنا الطريق على المارة من المسافرين، وأخيرا استوينا على مقاعدنا، لا ندري أين نبدأ الحديث ولا كيف نبدؤه بعد هذا الغياب الطويل الذي باعد بيننا بعد أن كان اجتماعنا المطرد المتكرر جزءا لا يتجزأ من حياتنا، وقد كنا نأنس أحدنا بالآخر أنسا، حتى ليقصد أحدنا إلى الآخر في كل صغيرة أو كبيرة من أحداث حياته، يطلعه على خفايا نفسه وأزماتها، وعلى مشكلاته التي تنشأ في علاقاته مع سائر أفراد أسرته، أو مع أحد من بقية الأصدقاء.
كنت أحس دائما إذا ما تحدثت إلى فريد كأنني أحدث نفسي؛ لا أكتم سرا ولا أدعي غير الحق؛ فلا أتظاهر بثراء لا وجود له، ولا بفقر أبشع من الفقر الذي كنت فيه، وذلك كله على الرغم من أن بين شخصيتينا خلافا جوهريا؛ فهو يعلي العمل على الفكرة، وأنا أعلي الفكرة على العمل، وهو يضحك من قلبه وأنا أضحك من وراء قلبي، وهو يحب الناس لأشخاصهم لا لآرائهم، وأنا أحب الناس لآرائهم لا لأشخاصهم؛ ولذلك فهو محدود في صداقاته بالناس الحقيقيين الذين يملئون عليه حياته؛ وأما أنا فصداقاتي قد امتدت إلى المؤلفين وإلى الشخصيات الوهمية التي تحيا على صفحات القصص والمسرحيات، هو يريد من صديقه أن يبادله النكات وهما يشربان أقداح الشاي التي كان يصنعها بنفسه، لا يركن في صنعها إلى أحد سواه، وأنا أريد من صديقي أن يجادلني في فكرة أو في مذهب نظري؛ هو لا يميل إلى القراءة، ويكره الكتابة كراهية شديدة - ولعله كان يستطيعها إذا أراد - وأنا أميل إليهما معا، وفوق هذا وهذا وذاك من بذور التباين بين الشخصيتين، أنه كان يبحث عن شريكة حياته بعد تخرجنا بقليل؛ لأنه لم يتصور حياته بغير زوجة وأبناء، وكان مدار بحثه عن الزوجة أن تكون من ذوات الثراء؛ وأما أنا فقد كانت فكرة الزواج عندي أمرا لا يرد على التصور، كما لا ترد فكرة الدائرة المربعة؛ إذ لم يكن التضاد بين نفسي وبين هذه الفكرة أقل من التضاد بين التدوير والتربيع.
وكان صديقي فريد أثناء بحثه عن زوجة تناسبه، لا يفوته أن يجعل من البحث موضوع فكاهة نضحك لها كلما اجتمعنا؛ فقد كان أمس يزور أسرة ليرى فتاة مقترحة له، فيجيء اليوم ليروي لنا ما دار بينه وبين والديها، أو ما دار بينه وبينها من أحاديث، فنجد في روايته مواضع كثيرة تثير الضحك إذا ما كانت الأسرة المقصودة أعلى مما ينبغي أو أخفض مما ينبغي؛ ففي كلتا الحالتين نضحك على مفارقات الموقف؛ في الأولى يتظاهر بما ليس فيه، وفي الثانية يتظاهرون هم بما ليس فيهم.
تخرجنا - أنا وفريد وسائر الأصدقاء - في سنة جفت فيها الضروع ويبست موارد الرزق، لا في مصر وحدها بل في أرجاء العالم أجمع، غنيه وفقيره على السواء؛ فنحن نعيش في عالم إذا انهارت به سوق المال في نيويورك تداعت لها الأسواق في لندن والقاهرة وطوكيو! قد يقع تجار المال هناك في خطأ، فينتج عن الخطأ ألا نجد نحن الشباب في القاهرة وظيفة واحدة خالية! هكذا كانت الحال حين تخرجنا، أزمة اقتصادية طحنت الدنيا طحنا، لكنها طحنتها بمعنى يختلف عن أفاعيل أزمة اليوم؛ فاليوم تمتلئ أيدينا بالمال ولا نقوى على الشراء؛ وأما يومها فقد تبخر المال كما يتبخر الماء في حمارة القيظ، وأصبح معلم المدرسة الإلزامية في قرى الريف، بجنيهاته الأربعة التي كانت راتبه الشهري يومئذ، أيسر حياة وأكثر بحبوحة من مالك الثلاثين فدانا من الأرض أو الأربعين؛ ولذلك كان من الحوادث المألوفة أنه يبيع أصحاب الأرض أرضهم، فيشتريها أصحاب الجنيهات الأربعة.
Página desconocida