فحياة العلم مذاكرة
وحياة العلم مذاكرته
نمط الهاء في آخر الشطر الأول مطا منغما موصولا بالشطر الثاني، وكذلك نقف قليلا عند التنوين في آخر الشطر الثالث وأخيرا نجعل الوقف على الهاء الأخيرة كضربة الطبل معلنة ختام التحية، وعندئذ نؤمر بالجلوس.
وأما الموقف الثاني الذي وقفت فيه موقف رجل مسئول؛ فهو أن لصوص المنازل قد كثروا خلال ذلك العام كثرة قيل إنها لم تعهد من قبل، وكان مرد الأمر إلى قلة في المطر وقحط في المحصول، وما يتبع ذلك من عوز وجوع، وقد رأى الموظفون - ومنهم أبي - أن يساعدوا رجال الشرطة بأن يكونوا من أنفسهم دوريات تجوب الشوارع أثناء الليل، لتفزع اللصوص كما تفزع العصافير من فوق الغصون بقرعات خفيفة على الصفيح، فلصوص ذلك العام لم يكونوا لصوصا محترفين لهم جرأة وتدبير، بل كانوا لصوصا تدفعهم الحاجة الماسة العاجلة إلى أي شيء يؤكل أو يلبس أو يباع، إلى أقل شيء، إلى رغيف يأكلونه، إلى قميص يلبسونه، إلى إناء يخطفونه ليبيعوه في السوق برغيف أو قميص، وإذن فتخويفهم أمر ميسور تكفي له هذه «الدورية» من الموظفين تجوب شوارع المدينة ليلا.
لكن كان لا بد للبيوت كذلك من حراسة بالليل، فعلى كل أسرة أن يتناوب أفرادها في اليقظة لتكون هنالك العين الساهرة دائما، والشاخصة نحو الأسطح وحوافي الجدران الخارجية؛ فاللص إما أن يهبط إلى فناء الدار من سطح الغرفات - والدور كلها من طابق واحد يتوسط غرفه فناء يحيط به السور الخارجي - وإما أن يهبط إليه واثبا فوق السور المحيط به، وكان يقال لنا إن أقل صوت يصيح به الحارس اليقظان إذا رأى لصا يهم بالهبوط إلى الفناء، كاف لتخويفه، يفر كأنه الظل يختفي بلا صوت.
ومن ذا في بيتنا تقع عليه هذه الحراسة سواي؟ إن أخي أصغر من أن يوكل إليه هذا العمل الجريء، وأمي وحدها لا تغني؛ لأنهم يريدون للحراسة «رجلا»، و«رجل» البيت في غيبة أبي هو أنا الصبي ذو الأعوام التسعة؛ لأنني أنا «رشيد العائلة» كما كان يحلو لأبي دائما أن يقول، كان علي إذن أن أقف في وسط الفناء، ممسكا بيدي حطبة من حطب الموقد - وحطب الموقد هناك قطع غليظة من فروع الشجر الجافة - وأظل أتطلع بعيني إلى حافة السطح وإلى حوافي الأسوار. وإنني لأكتب هذه الأسطر الآن وما يزال في نفسي مزيج المشاعر التي كانت تملؤني أثناء عملية الحراسة بضع ساعات من كل ليلة؛ فشجاعة مصطنعة تجعلني أشد بقبضتي على الحطبة الخشنة، وزم للشفتين وحبس للأنفاس، ودفع بالصدر إلى أمام، وتثبيت للقدمين على الأرض، ووراء كل هذا رجفة الخوف تعتريني من الرأس إلى القدم؛ وماذا تتوقع من صبي صغير أمر أن يضع في إهابه رجلا؟ إنه لا مناص من أن تكون الرجولة البادية الظاهرة مبطنة بطفولة خافية مستترة؛ ألا ما كان أرهبها من لحظة تلك اللحظة من جوف الليل الساكن، التي نظرت فيها إلى حافة السطح المطلة على الفناء، لأشهد ساقين تدلتا وجذعا في سبيله إلى الظهور، ولم تكن بعدئذ إلا حركة واحدة من الواثب ليكون معنا في فناء الدار، فارتعشت ركبتاي، وزعقت في صوت مكتوم ماتت حروفه في حلقي، ولكن استطعت أن ألفظ الكلمتين: «امسك حرامي»، فيا لعجبي من تلك الزفرة المبحوحة من طفل راجف، تكفي لطرد الشيخ إلى حيث لا أدري! وقل ما شئت عما ملأني من شعور بالزهو لشجاعتي المزيفة، فكأن تلك الليلة كانت مولدا لمركب شعوري أحسبني لا أزال أحمله بين جنبي، هو مركب الشجاعة الخائفة، أو الخوف الشجاع. •••
كانت النقلة واسعة مما كنت عليه في كتاب الشيخ الدرديري، إلى ما أصبحت فيه بكلية غوردون؛ فهي نقلة من طفل يفرض فيه أنه لا يعرف شيئا ولا يعلم شيئا إلى طفل يفرض فيه أنه يعرف كل شيء ويتعلم أي شيء.
كان المدرسون في المرحلة الابتدائية أكثرهم من المصريين وأقلهم من أبناء السودان؛ هذا هو مدرس اللغة العربية الذي تولانا أول من تولى، أستاذ أزهري من المصريين، فيه من الجد والصرامة ما لو قسم بين عشرين مدرسا لكان من كل واحد فيهم مدرس ناجح، إنه أوشك ألا يفرق بيننا نحن الصغار الذين جاءوا إليه ليبدءوا حياتهم الدراسية، وبين متخصص في دراسة اللغة العربية من علماء الأزهر؛ فقد كان يأمرنا أن نسطر له هوامش كتاب النحو المقرر بخطوط مائلة، لنكتب عليها ما يمليه من إضافات، على نحو ما نكتب الحواشي في الكتب القديمة، ويعلمنا الإعراب فيما أشكل من آيات الكتاب الكريم أو من أبيات الشعر الجاهلي، بعد أن يشرح لنا هذه وتلك شرحا وافيا، لكنني كنت أحفظ الإعراب عن ظهر قلب دون أن أفهم من مصطلحه شيئا، فما زلت أحفظ من تلك السنة الأولى أن «إذا ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه»، ولا بد أن يكون ذلك الأستاذ القدير قد شرح المعنى المقصود بكل هذا، لكنني كنت أعجز عن استيعابه، فكلمة «الظرف» عندي لم تكن تعني إلا الظرف الذي يوضع فيه «الجواب»، خصوصا وكلمة «الجواب» واردة في آخر العبارة، و«الاستقبال» عندي لم يكن إلا استقبالا للضيوف، و«الشرط» لا يكون إلا فرقا في الثوب، فما علاقة «إذا» بهذا كله؟ لم أكن أدري، ولكني أحفظ عن ظهر قلب، والأستاذ يحدوه فينا أمل يجاوز قدراتنا.
وهذا هو مدرس اللغة الإنجليزية، شاب مصري شاحب الوجه حاد الفكين، لا فرق - في الصرامة والجد - بينه وبين مدرس اللغة العربية إلا في الزي، فذلك شيخ وهذا أفندي، نعم كان بأيدينا كتاب المطالعة الذي يبدأ بدرس عن ثور يركبه صبي فلاح، لكن هل كان يكفيه هذا؟ كلا؛ فالمادة المضافة لا أول لها ولا آخر، وأعمدة الأفعال وتصريفها، وقوائم الكلمات التي نحفظها كل يوم كانت تلاحقنا بلا هوادة، إلى الحد الذي كنا نخرج معه إلى فناء المدرسة بعد درس الإملاء، فيسأل بعضنا بعضا (وهذا مثل حقيقي تعيه ذاكرتي منذ ذلك الحين): كيف كتبت كلمة
boy ؟ - كتبتها هكذا.
Página desconocida