فوقفت بغتة، ثم سرت مسرعا نحو الباب الذي قذف «الأحدب» بنفسه فيه، لم أر شيئا هناك إلا مصباحا كهربائيا خافت الضوء في الركن الأعلى من بهو السلم، إنه بناء عال من ستة طوابق أو سبعة، وحين صعدت بصري في لمحة سريعة إلى أعلاه، لم أر إلا نوافذ وشرفات، أكثرها معتم وأقلها مضيء.
من عسى هذا «الأحدب» أن يكون؟ أينطوي جنباه على سر دفين، أم أنه لا سر في الأمر، وأن كل ما في جوفه قد برز ورما على ظهره؟ لكنه شاذ غريب بغير شك، إنه قطعة منثورة وحدها، والويل كل الويل، ثم الخير كل الخير، من هذه القطع التي تنثرها عجلة الحياة بعيدا عن مركزها وإطارها، فتظل دائرة في فلك وحدها؛ فمن هؤلاء يكون الثائرون الساخطون، ومنهم يكون العظماء المصلحون، ويكون الأنبياء والأولياء، ويكون المجرمون النوابغ في إجرامهم، ويكون الفنانون المبدعون في فنهم، فما أقرب الشبه بين هؤلاء جميعا على بعد ما بينهم من تفاوت واختلاف، كسيل الماء العرم، هو الذي يصلح الزرع، وهو الذي يفسده، على حسب ما يحيط به من ظروف.
و«الأحدب» - فيما يظهر لي - قطعة بشرية منثورة وحدها، تدور في فلك وحدها، ترى من ذا يكون وماذا يكون؟ لقد بت ليلتي أفكر فيه وأفرض في أمره الفروض، وعاودني الشعور الخفي أن أصلح ما فسد، فأقيم في هذا المسكين ما التوى، وأقوم ما مال واعوج، أو قل إن حبي لاستطلاع أمره قد غلبني، فسترت نفسي وراء هذا الشعور الخفي، وتذرعت بهذا السلاح، ومضيت عصر اليوم التالي إلى الدار التي دخلها «الأحدب» ليلة الأمس، مضيت لا ألوي على شيء، وأخذت أسرع الخطو حتى لا يصرفني التردد عن غايتي.
لم أجد عند الباب أحدا، وتلفت ها هنا وها هنا، وتحركت خطوتين هنا وخطوتين هناك، ثم دخلت وصعدت الدرج مبطئا غاية الإبطاء، شاخصا ببصري إلى أعلى؛ الأبواب كلها مغلقة، صعدت الدرج حتى نهايته، ونهايته سطح نظيف، وقفت قليلا وقلبي ينبض نبضا شديدا من الصعود ومن الخوف معا، الخوف من هذا البناء المهجور الذي لا يعمره إنس ولا جن، لكني رأيت الضوء منبعثا من نوافذه ليلة الأمس، وهممت بالنزول، لولا أني بلفتة غريزية لويت عنقي ونظرت إلى نافذة مغلقة الزجاج في ركن السطح؛ إن وجها يطل من خلف الزجاج، إنه هو «الأحدب».
لم يعد بيني وبين كشف الغطاء إلا خطوات خطوتها نحو غرفة «الأحدب»؛ وفتح لي الباب قبل أن أقرعه؛ إن روعي ليهدأ قليلا قليلا، إن الخوف لينزاح عني إزاء هذا الوجه الباسم الذي فتح لي الباب ليتقبلني مسرورا مرحبا، ليس الوجه العابس في الطريق عابسا هنا، والصدر الضيق على الجدار الذي لم يتم بناؤه رحيب واسع هنا، ولولا نتوء الورم فوق ظهره لقلت إنه إنسان آخر، لقد استدر وهو في الطريق إشفاقي، لكنه في داره استثار حبي، إنه ها هنا يمزج في حديثه الجد بالفكاهة، ويقول النكتة في إثر النكتة، ويضحك من كل قلبه، ألا سبحانك اللهم، تضع الرجلين - بل تضع جمهورا من الرجال - في إهاب واحد.
إن مشكلة «الهوية» التي تحير الفلاسفة لم تعد تحيرني؛ فالفلاسفة يصدعون رءوسهم تصديعا في محاولة الجواب عن هذا السؤال: كيف يحتفظ الشخص الواحد بهوية واحدة مع اختلاف ظروفه؟ إنه يكون صحيحا ويكون مريضا، ويكون طفلا ويكون رجلا، ويكون شبعان ويكون جائعا، ويكون غضبان ويكون راضيا، ويكون يقظان ويكون نائما، ومع هذا الاختلاف الشديد الذي يطرأ على حالاته يظل إنسانا واحدا، فما الذي فيه يخلع عليه تلك الوحدانية مع تعدد حالاته وأوضاعه؟ كلا، لم تعد تحيرني المشكلة التي تحير الفلاسفة بعد أن رأيت «الأحدب» في الطريق وفي داره، فلا وحدانية هناك، ليس الرجل رجلا واحدا، ولكنه عدة رجال، هو في كل حالة رجل غير الرجل الذي يكونه في الحالة الأخرى؛ فمحال أن يكون «الأحدب» العابس الجاد المهموم الحزين الذي رأيته وتحدثت إليه وهو جالس على الجدار الذي لم يتم بناؤه، هو نفسه «الأحدب» الضاحك المرح المرحب بي وهو في داره.
أدخلني «الأحدب»، فعبر بي ردهة لاحظت خلاءها من الأثاث تقريبا، وانتهينا إلى غرفة هي مأواه، فيها كل شيء، فيها السرير وصوان الملابس ومكتب ومكتبة ومنضدة ومقاعد ومرآة؛ أثاثها هزيل لكنه نظيف، وتنسدل على النافذة ستارة رقيقة فيها خروق ممزقة، لكنك تشعر في غرفته بالطمأنينة وراحة النفس؛ وليست ديار الناس في ذلك سواء؛ فقد أزور الدار وأحس أثناء زيارتي أني أتقلب على الشوك دون أن يكون بيني وبين صاحب الدار ما يدعو إلى النفور، ثم قد أزور الدار فينبسط صدري وتطيب نفسي، وأتمنى لو بقيت فيه اليوم كله؛ وقد قلت ذلك لصاحبي «الأحدب» فور جلوسي على مقعده المريح، الذي كان - فيما يظهر - جالسا عليه لتوه؛ لأن الحشية كانت ما تزال دافئة بحرارته.
قلت: إن النفس لتحس بالطمأنينة في غرفتك هذه، والمنظر الذي يطالعك من نافذتك رائع جذاب.
قال: إذن لا أحسب الفجوة بين نفسينا عميقة كما يبدو للوهلة الأولى؛ فقد أعجبك مأواي هنا، كما أعجبك ملاذي الهادئ الذي ألوذ به خارج المدينة من صخب الحياة، إن النفوس الإنسانية لتشعر بالتقارب والتداني في حالات هدوئها، حتى إذا ما عج بها عجيج الحياة ألفيتها متنافرة متعاركة، لا عجب أن يكون الناس جميعا سواء وهم نيام، ثم يأتي الموت - وهو نوم طويل بغير آخر - فيسوي بينهم إلى الأبد.
وخشيت أن ينتقل صاحبي بذكر الموت إلى حالة من حالاته الكئيبة السوداء، فغيرت موضوع الحديث، وجعلت موضوعه أقرب ما وقعت عليه يدي فوق المنضدة الصغيرة الوطيئة التي كانت أمام مقعدي.
Página desconocida