إنها قصة شعب طيب الأعماق، قدم للإنسانية أقدم حضارة عرفها العالم.
إنها قصة شعب جلد مصابر يعشق الحرية ويضحي في سبيلها بكل مرتخص وغال.
بدأت هذه القصة عندما رنت إنجلترا ببصرها نحو مصر تريد أن تستأثر بها، وخاصة بعد أن استولت فرنسا على تونس في سنة 1881. فنحن لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن مصير مصر قد قرر في نفس الوقت الذي استولت فيه فرنسا على تونس؛ فقد بدأت إنجلترا ترسم سياسة واضحة المعالم للتدخل وحدها في شئون مصر، وكانت الفرصة مواتية لأنها اعتقدت أن دول أوروبا لن تعترض على تدخلها، ولن تثير الصعاب في سبيلها.
موقف الدول
إن ألمانيا ومعها النمسا والمجر لم يكن يعنيها أمر مصر في كثير أو قليل، بل لعلها كانت ترحب بتدخل إنجلترا في شئون مصر، على أن تترك لها حرية التصرف في مشاكل أوروبا الداخلية، أما إيطاليا فقد كان يؤلمها أن تنفرد إنجلترا بالتدخل في شئون مصر؛ فقد كانت لها هي أيضا أطماعها في مصر، وكانت لا تزال تراودها أحلام الإمبراطورية الرومانية القديمة، ولكن إيطاليا في ذلك الوقت لم يكن لها وزن من الناحية الحربية أو المالية في الميدان الدولي؛ لهذا لم يحس أحد بألمها ولم يدخل أحد غضبتها في حسابه.
أما روسيا فقد شابهت ألمانيا والنمسا والمجر؛ أي أنها لم تكن تمانع في أن تعمل إنجلترا للاستيلاء على مصر ما دامت تترك لها حرية التصرف في بلاد البلقان.
ولكن بقيت هناك فرنسا، ولفرنسا في مصر ذكريات يرجع أبعدها إلى أيام لويس التاسع، ويرجع أقربها إلى حملة نابليون، ومنذ فشلت هذه الحملة وفرنسا تعتبر مصر ميدانا لنشاطها الثقافي والاقتصادي، بدأت هذا النشاط في أيام محمد علي وكانت آخر مظاهره تحقيق مشروع قناة السويس على يد مهندسها ديلسبس؛ لهذا كانت فرنسا ترقب محاولات إنجلترا في مصر دائما بعين يقظة، وأقصى ما استطاعته أنها حرصت دائما ألا تترك إنجلترا تتدخل وحدها في مشاكل مصر المختلفة، وقنعت بأن تشترك معها دائما في الإشراف على هذه المشاكل والعمل على حلها بما يتفق ومصالح الدولتين معا، إنجلترا وفرنسا، ولكن إنجلترا بدأت منذ احتلال فرنسا لتونس تعمل على أن تنفرد وحدها بالتدخل في شئون مصر؛ فقد أيقنت أن فرنسا لن تثير بعد هذا اعتراضا جديا قويا ضد تدخلها في مصر، وهي لو حاولت الاعتراض فلن يكون لاعتراضها وحدها أثر ذو أهمية.
ومع هذا فقد حرصت فرنسا على ألا تترك لإنجلترا الفرصة للتدخل وحدها في شئون مصر، ولم تجد إنجلترا بدا من قبول هذا الوضع ولكنها استعانت بدبلوماتيتها وسياستها الماكرة إلى أن استطاعت أن تتخلص من هذه المشاركة في الوقت المناسب، وعند ذلك ضربت ضربتها الناجحة.
وتفصيل ذلك أن الدولتين أقضت مضاجعهما الثورة العرابية، ووجدتا في نجاحها قضاء على مصالحهما ومصالح رعاياهما؛ لهذا أقدمتا على إرسال مذكرة مشتركة إلى مصر، وقدم هذه المذكرة قنصلا الدولتين في 8 يناير سنة 1882 إلى الخديو، وفيها تتعهد الحكومتان بتقديم عونهما إلى الخديو ومساعدته ضد الثائرين، والعمل على استقرار النظام القائم في مصر.
فرح توفيق بهذه المذكرة؛ فقد وجد فيها ضمانا كافيا لتقوية مركزه، وبذلك زادت الشقة بعدا بينه وبين الشعب، أما رجال الجيش فقد أثارتهم هذه المذكرة واعتبروها تدخلا سافرا في شئون مصر، وبدءوا يفقدون ثقتهم في إنجلترا، ورفضت وزارة شريف المذكرة وأبلغتها للباب العالي، وانطلق رجال الجيش في طريقهم وتوثقت الصلة بينهم وبين نواب الشعب، وبدأت الثورة تتبلور لتتخذ شكلها العام المعبر عن آمال المصريين جميعا وعن سخطهم على الدول الأوروبية.
Página desconocida