Historia de vida
قصة حياة
Géneros
وكنت أعود عصر كل يوم فأرمى كتبى وكراساتى، وأخرج إلى الشارع لألعب مع أقرانى، فأزجر عن اللعب فأصعد وأطل على اللاعبين من الشرفة، وبى حسرة ولهفة. وأسمعهم يصفوننى، «بالعقل» و«الهدوء» فألعن «العقل» وأذم «الهدوء» فقد كنت مكرها على ذلك لا مدفوعا إليه بطباعى وميولى، ومتى رأيت طفلا ساكنا قليل الحركة، فاعلم أنه مريض أو ضعيف أو ممسوخ ومتى يلعب الواحد ويجرى وينط إذا لم يفعل ذلك فى طفولته؟
ويدخل الليل فأجلس قريبا من المصباح وأفتح الكتاب وأقرأ خوفا من السوط لا رغبة فى التعليم، ويرانى أبى فيشفق على عينى أن تؤذيهما القراءة فى الليل، فينهانى عنها، فأطوى الكتاب وأسكت، وأضيق ذرعا بهذا الصمت، فأفتح فمى وأهم بكلام فينهانى أبى وينهرنى، ويقول لى: «لا تقاطع الكبار، ولا تحشر نفسك معهم» فأقول: إنه ليس هنا صغار أحشر نفسى معهم فمع من أتكلم؟ فيعبس ويضع أصبعه على فمه، فأسكت ثم ينفد صبرى فأعود إلى الكلام فيقول لى: ألم أقل لك إن هذا الكلام لا يليق؟ فأعترض بأبى أراه يتكلم وأرى أمى تتكلم فلماذا يليق بهما مالا يليق بى؟ فيبتسم ولا أدرى لماذا؟ ويربت لى على كتفى وخدى، وقد يقبلنى ويمسح لى شعرى، فأتململ وأقول له إنى أريد أن أتكلم وألعب فمع من؟ بنت الخادمة لا يليق أن ألاعبها لأنها بنت، وأخى أصغر منى بأربع سنوات وهو على كل نائم.
فتحملنى أمى إلى الخادمة، وتوصيها بى، وتتركنى معها، فتسرى عنى بحكاياتها وأحاديثها حتى يغلبنى النعاس.
وكنت أرى أبى يدخن وهو متكئ بكوعه على مخدة فيتلوى الدخان فى جو الغرفة ويتلوى خياله على الحائط، فأتتبعه بعينى تارة، وبأصبعى تارة أخرى. واشتهيت مرة أن أقلد أبى: فجئت بورقة ولففتها على صورة سيجارة وجعلت أضعها فى فمى وأنا متوكئ على الوسادة وأنفخ كما يفعل أبى، ولكنه لم يكن هناك دخان يتصاعد ويتلوى، فأشعلت عود كبريت وأضرمت النار فى اللفافة واتفق أنى وضعتها على الوسادة فاتصلت بها النار وامتدت إلى حشوها من القطن تحت الكسوة ففزعت وخرجت أعدو، واختبأت وبعد قليل كانت النار مندلعة فى البيت، وكان كل من فى البيت يجرى بالطشوت والأباريق والقلل لإطفاء الحريق فلم يجد ذلك شيئا وامتدت النار إلى غرفة أخرى ولم تكن شركة الماء قد مدت أنابيبها إلى البيوت. وكان السقا يمر بنا كل يوم فيملأ لنا الأزيار والطشوت وما إلى ذلك من الأوعية وكانت وسائل الاتصال بطيئة، ولا سيما فى الأحياء الوطنية، فلا تليفون ولا ترام ولا سيارات ولا شىء إلا الدواب ومركبات الخيل، وكانت إدارة المطافئ تتقاضى خمسة جنيهات إذا دعيت لإطفاء حريق. على أنى لا أدرى بماذا كانت تطفئ الحرائق ولا ماء هناك يجرى فى الأنابيب. فإذا قلت إن البيت احترق، وأن الحارة كلها شبت فيها النار فلا يصدقنى القراء، والمثل يقول «يعملها الصغار ويقع فيها الكبار» أى والله.
الفصل الثالث
كان لأخى الأكبر زوجتان من قريباته تقيمان معنا فى بيت واحد لهما منه الدور الأوسط، ولنا: جدتى وجدى وأبى وأمى - الدور الأعلى - وللمكتب الغرف - أو المناظر - التى كانت فى ساحة البيت، أو فنائه. وكان أخى - كأبى - مزواجا. فأما أبى لا أعرف لماذا كان هكذا، فما أعرف فى أسرتنا كلها من كانت له زوجتان فى وقت واحد، أو من طلق زوجته أما أخى فقد يبدو من المستغرب أن يتخذ امرأتين فى حياة أبيه، وهو لا يكسب قرشا بعرق جبينه، ولا مورد له إلا ما يجود به عليه الوالد، ولهذا يحسن أن أقول، إن أباه زوجه وهو صغير - كما كانت العادة فى ذلك الزمان - ليفرح به، وكانت ليلة الجلوة ليلة سوداء أعنى أن السرادق أقيم، وأضيئت الأنوار ونشرت الرايات، ومدت الموائد، وراحت الموسيقى تعزف، وشرع المغنى يصعد إلى «التخت» وإذا بنبأ يجىء من سمخراط أن المرحوم إبراهيم أفندى الوكيل توفى فجأة، فأطفئت الأنوار، وانفض السامر وشرع الذين كانوا فى جذل وسرور وحبور، يتهيأون للسفر إلى المأتم.
ومضت سنوات فلم يعقب أخى نسلا فقلق أبى، وقال قائل: إن الزوجة عاقر، وقال آخرون قد يكون العقم علته من «الولد» فما العمل؟ العمل أن يزوجوه من أخرى على سبيل التجربة وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان وقد كان، ولكن «الولد» - أعنى أن أخى - ظل لا يعقب شيئا، ولم يفد من هذه التجربة، إلا أنه صار ذا زوجتين.
وعلى ذكر العقم، أقول إن أخى هذا وشقيقته - عليهما رحمة الله - من أخرى ماتت قبل أن يتزوج أبى أمى، وقد شاءت الأقدار أن يكون نسلها عقيما، وأن يحرم أبناها - أخى وأختى - بعض زينة الحياة الدنيا وأن يقاسيا من جراء ذلك ما يقاسيه كل راغب فى الذرية، وكان بلاء أعظم، فقد اضطرت أن تصبر على الحرمان، وأن تحتمل ما يبديه بعلها من اللهفة على البنين وأن تنصح له بالزواج، فلما فعل ورزق طفلا طلق أمه - أو ماتت لا أدرى، فتولت هى تربيته وتبنته وتعهدته وأولته ما انطوت عليه نفسها من عطف الأمومة المخنوقة وحفظ لها هو ذلك، فكان أبر الناس فى حياته وأحناهم عليها وأعمقهم حزنا لما وافاها الأجل.
وأعود إلى أخى بعد هذا الاستطراد فأقول إنه كان على هذا لا يجرؤ أن يسهر، أو أن يدخن أمام أبى، فقد كان السهر والتدخين محرمين على غير جدى وأبى، فأما جدى فكان يتخذ ما يسمى «الشبك» - بضم الشين والباء - وهو قصبة طويلة جدا نحو ذراع ونصف ذراع يتصل باخرها شىء يحشى بالدخان وتوضع عليه الجمرة. وأما أبى فكان يتخذ السجاير ولكن ما كان مباحا لهما، كان محرما على سواهما - لا أدرى لماذا؟ وإن كان أخى ذا زوجتين.
وقد رأيت أخى مرة يدس السيجارة فى جيبه وقد خرج عليه أبى فجأة فتحرق الجيب، فيطبق عليه أصابعه ليخمد ما اضطرم.
Página desconocida