4
ثم تملك النصارى إيلورة، ومكلين، فهال ذلك العرب ورددوا مذعورين: لقد عورت عين غرناطة اليمنى، فأجابهم النصارى: بل قولوا: لقد كسر ملوك الكثلكة جناح النسر العربي الأيمن. وتم استيلاء فردينالد ورجاله على القسم الغربي من المملكة، وأصبحت غرناطة تنقص من أطرافها قليلا قليلا، وسخط الغرناطيون على الزغل؛ لأنهم لم يحتملوا كل هذه الهزائم، ودعوا أبا عبد الله مرة ثانية إلى مدينتهم، فصعب عليه أن يثبت وحده أمام عمه فاستعان بالمسيحيين.
وكان فرديناند في هذا الحين يحاصر بلش بالقرب من مالقة، فوصل الخبر إلى غرناطة فأثار غضب أهلها وسخطهم، فاستنهضوا عزيمة الزغل، وكان دائما على أهبة لمصافحة سيوف أعدائه ومنازلة الموت لاستبقاء الحياة، فقاد جنوده في جرأة وإقدام لتخليص بلش، وكان يعلم حق العلم أن ابن أخيه الخائن سيهتبل فرصة غيبته ويوطد ملكه بغرناطة، ولكن الزغل لم يلقب بالشجاع عبثا، فجعل التفكير في نفسه دبر أذنه وتقدم لإنقاذ مالقة.
وكانت خطته أن يثب المحصورون بالمدينة من الداخل، وأن يفجأ هو وجيوشه أعداءه من الخارج، ولكن عدوه كان عظيم المكر شديد المحال، فقد وصلت هذه الخطة إلى يد فرديناند، فاتخذ لها عدتها.
وفي ليلة رأى أهل بلش جنود الزغل مصطفين فوق شرف قريب فابتهجت نفوسهم، ولكنهم في الصباح حينما رددوا النظر لم يروا من هؤلاء الجنود أحدا؛ لأنهم دحروا في أثناء الليل عند أسوار المدينة، وتمزق جيش الإنقاذ شر ممزق، وتبدد تبدد الضباب أمام هجمات مركيز قادس العاتية، وحينما أخذت فلول هذا الجيش تدخل في خزي وعار أبواب غرناطة، اشتد غضب الغرناطيين، فثارت ثورتهم، وأسرعوا بخلع طاعة الزغل ونصب أبي عبد الله سلطانا مكانه، وبعد قليل أقبل الزغل في بعض رجاله نحو الأبواب، فرآها مغلقة في وجهه، ورفع رأسه فرأى علم أبي عبد الله خفاقا فوق حصون الحمراء فارتد حزينا محسورا إلى مدينة وادي آش، وجعل بها حضرة ملكه بعد أن أغلقت غرناطة أبوابها وقلوبها دونه، ولفظته في ساعة بؤسه كما تلفظ النواة.
ثم شرع النصارى يحاصرون مالقة، ولكنها كانت صعبة المنال شديدة المنعة، لم يكن اقتحامها أمرا يسيرا، فقد أحاطت بها الجبال والأسوار الحصينة التي يعلوها الحصن الرابض قبل جبل فارو، حيث تستطيع حاميته أن تصب القذائف على من بالسهول التي تكتنف المدينة، وتطوع بالدفاع عنها في هذا الحين بطل عنيد، واسع الحيلة، صلب العود، يعرف بحامد الزغبي كان يقود من قبل جيش رندة الذي حطمه النصارى تحطيما، فلم ينس لهم بعد تغلبهم عليه، وانتزاع القلاع الصخرية منه عنوة، وهب هذا الجندي الباسل يبث في أهل المدينة وبين أنصاره من البربر روحا من الجرأة والصبر والتحدي، حاول ملوك الكثلكة جهد استطاعتهم أن يخمدوها فلم يفلحوا، فاستطاع حينما تمكن من جبل فارو أن يحمي المدينة، على الرغم من انحلال عزيمة بعض أهلها من التجار وأصحاب الأموال، وحاول الملك أن يرشيه، فرد إليه رسوله في أنفة وكبرياء، وحينما أنذر النصارى المدينة بوجوب التسليم، وألح عليه تجارها أن يغمد السيف، أجابهم في شمم وإيجاز: لقد جئت هنا للدفاع عن المدينة لا لتسليمها، وحصر فرديناند ضربه في جبل فارو فغطت مدافعه المعروفة «بأخوات شيمينيس السبع» الحصن برداء من الدخان والنار، واستمرت قذائف اللهيب تضطرم ليلا ونهارا، وهم النصارى أن يأخذوا الحصن عنوة ، فصب عليهم الزغبي وأنصاره الأشداء حميما من القار والراتنج، وقذفوا فوق رءوسهم الأحجار والصخور وهم يحاولون تسلق سلالمهم، وسددوا نحو صدورهم السهام فاضطروا إلى النكوص مدحورين.
ثم أخذ النصارى في دس الأنفاط (الألغام) تحت الأسوار فنجحوا، ونسفت بعض المعاقل بالبارود لأول مرة في تاريخ الإسبان، واجتمع الفرسان المسيحيون حول أسوار مالقة، وحضرت الملكة ايزابلا نفسها فأثار حضورها روح الحماسة في الفرسان والجنود، ونصبت عرائش من الخشب لحماية الجنود في أثناء وضعهم الأنفاط تحت الأسوار، كل هذا والزغبي عنيد لا يسلم، قوي لا يغلب، ولكن القدر المحتوم جر إليه في ذيوله ما هو شر من المدافع وأفتك من البارود، فقد اشتدت المجاعة بين سكان المدينة، ففلت عزائمهم وصيرتهم أكثر ميلا للإنصات إلى دعوة الصلح التي يبثها التجار منهم إلى سماع دعوة الصبر والمثابرة من الجنود المستميتين، ولم يكن هناك أمل في نجدة تصل لإنقاذهم، فإن الزغل هم مرة بعد أخرى بإنقاذ المدينة، فجمع ما بقي من جيشه، وزحف من وادي آش للنجدة، ولكن ابن أخيه المشئوم الذي أكد بأعماله شؤم لقبه أدركته الغيرة الكاذبة من عمه، فأمر جنده أن يصدوا جيشه ويشتتوه وهو ذاهب إلى مالقة، وانتهت آخر جهود الزغبي بمذابح شنيعة، وأضر السغب بالسكان، وقذفت الأمهات بأطفالهن أمام جواد الحاكم باكيات صائحات بأن لم يبق لديهن فتاتة من طعام يغذين بها أطفالهن، وبأنهن لم تعد بهن طاقة لسماع بكائهم.
بعد ذلك سلمت المدينة وأجبر الجنود قائدهم الزغبي - وكان لا يزال متشبثا بجبل فارو - أن يفتح أبواب المدينة ففتحت، وكان جزاء هذا البطل الشجاع الباسل أن يقذف به في جب فلم يسمع عنه خبر إلى اليوم.
وعندما رفع الحصار عن المدينة، أخذ سكانها المساكين يحارب بعضهم بعضا لشراء الطعام من النصارى، وأسر الإسبان الحامية الإفريقية للمدينة وكانت لا تزال تحتفظ بشممها على الرغم مما أصابها من الإعياء والنصب، أما بقية السكان فسمح لهم بأن يفتدوا أنفسهم على شرط أن يسلموا جميع بضائعهم وأمتعتهم إلى الملك لتكون أول قسط من أقساط الفدية ، وأنهم إذا لم يؤدوا الباقي بعد ثمانية أشهر عدوا عبيدا، وبعد أن أحصي عددهم وفتشت منازلهم أطلق سراحهم. «فكنت ترى الشيوخ وقد نال منهم الهرم، والنساء وقد فقدن الحامي والنصير، والفتيات في غضاضة شبابهن، وكثير من هؤلاء من عاش في باحة العز وبين أكناف النعيم، ترى هؤلاء جميعا يمشون مشية المتعثر اليائس قاصدين القصبة، وحينما غادروا ديارهم أخذوا يدقون صدورهم حزنا، ويقلبون أكفهم أسفا، ويرفعون أعينهم الباكية إلى السماء في ألم وحسرة، وتحدثنا الروايات أنهم كانوا يقولون وهم يندبون:
يا مالقة يا أجمل المدن وأبعدهن صيتا!! أين منعة حصنك؟! وأين عظمة أبراجك؟! وماذا أفادت أسوارك القوية في حماية أبنائك؟! سيرثي بعض هؤلاء الأبناء لبعض وهم غرباء مشتتون في أرض غير أرضهم!! ولكن هذا الرثاء لن يلقى من الناس إلا سخرية وهزوا.
Página desconocida