وكان يطمح صاحب سنتياغو أن يجمع شمل مشاته، وأن يهجم بهم على الأعداء، ولكن قومه من حوله ألحوا في رجائه أن يربأ بنفسه عن التلف، وقالوا له فيما قالوا: إن في بقائك بين براثن هؤلاء الأعداء موتا محققا لا يدفع بسيف، ولا ينفع فيه الإقدام، وإن في فرارك إبقاء على حياة قد تنال في يوم أمنية الانتقام، فخضع القائد بعد لأي لنصحهم وقال: اللهم إني أفر من غضبك لا من هؤلاء الكفار، فإنهم لم يكونوا إلا آلة في يدك أردت أن تطهرنا بها من ذنوبنا، ثم دعا بالأدلاء أن يتقدموه، ونخس جواده فوثب فوق أخاديد الجبل قبل أن يدركه العرب ، ورآه جنوده فتفرقوا أيدي سبأ، واقتفى بعضهم آثاره ولكنهم ضلوا الطريق وأخذتهم الحيرة بين شعاب الجبال المضللة، فذهبوا هنا، ثم ذهبوا هناك، ومات فريق منهم في الطريق، وذبح العرب فريقا وأسروا فريقا.»
16
ولم ينس المسيحيون وشيكا هذه الويلات، ويلات جبال مالقة، فكانوا يتحرقون للانتقام، وقد ظفروا بثأرهم وشفوا غلتهم، وفازوا بانتصار باهر حينما شن أبو عبد الله على بلادهم غارة شعواء، وكان في ذلك الحين قد اغتصب ملك غرناطة من أبيه، فزحف بجنوده خفية مدرعا الليل، ولكن النصارى علموا بهذا الزحف، فأشعلوا النيران في قمم التلال للاستغاثة، وقد تنبه كونت قبرة لهذه النيران، وجمع زعماء قومه وأتباعه فعثروا على العرب بالقرب من لشانة، وتربصوا لهم في غابة هناك، ثم سقطوا عليهم فهزموهم شر هزيمة، وحينما دخل فلول الفارين أبواب غرناطة، تعاظم الأمر أهلها فبكى الباكون، وندب النادبون قائلين: «غرناطة يا أجمل المدن!! أين ذهب جمالك وجلالك؟! لقد دفنت زهرات مجدك في أرض الأعداء، فلن يتردد في بطحاء الرملة بعد اليوم صدى سنابك الخيل، ولا صيحات الأبواق، ولن يزدحم فضاؤها بعد اليوم بشبابك النبلاء، وهم يستعدون للمبارزة والجلاد.
غرناطة يا أجمل المدن!! لن تسري بعد اليوم نغمات العود الناعمة في شوارعك المقمرة، ولن تسمع ألحان العشاق تحت قصورك العالية، وستخرس دقات الصنوج المرحة فوق تلالك الخصيبة، وستقف رقصات الزمبرة الجميلة تحت عرائشك الوريفة.
غرناطة يا أجمل المدن!! لم أقفرت الحمراء من أهلها وأصبحت يبابا؟! إن الريحان وأزهار البرتقال لا تزال ترسل أريجها بين غرفها وفراشها الوثير!! ولا تزال البلابل تصدح في مروجها الفيح، ولا تزال أعمدة أبهائها تنتعش برشاش الفوارات يتساقط عليها، وتنعم بخرير أمواهها كأنه صوت أم تدلل أطفالها، واحسرتاه!! لن نشهد بعد اليوم طلعة السلطان مشرقة بين أبهائها؛ لأن نور الحمراء أطفئ إلى الأبد.»
قبض على أبي عبد الله في هذه الموقعة، وأرسل أسيرا إلى قرطبة، وانقض فرديناند على المرج يعيث فيه فسادا، بينما كان مولاي أبو الحسن - وقد عاد إلى ملكه - شيخا هما يحرق الأرم غيظا من وراء أسواره.
هوامش
سقوط غرناطة
كان أسر أبي عبد الله ضربة قاصمة لحكم المسلمين بالأندلس، ولم يكن أبو عبد الله نفسه بالرجل الذي يؤبه له - وإن كان شجاعا مقداما - لأنه كان ضعيف الرأي، كثير التردد، شديد الوساوس والتطير، وزاده خبالا أن استقر في نفسه أن الدهر يعكس آماله، وأن القدر يحاربه، فكان يندب دائما سوء طالعه ونحس نجمه، وعرف الناس فيه ذلك فنبزوه «بالشقيتو» أي الشقي، وبالزغيبي، وكثيرا ما كان يقول وهو يرى آماله تئيض رمادا: لقد كتب في لوح القدر أن أكون مشئوم الطالع، وأن يكون زوال هذه المملكة على يدي.
1
Página desconocida