11
فإذا اجتاز الداخل هذا الباب وصل إلى فناء مربع، فرأى إلى أحد جوانبه القصر الذي هم بإنشائه شارل الخامس ولم يتمه، ثم يمر بالطريق الموصلة إلى الحمراء، فيرى بعض أطلالها، وينتهي إلى ساحة تسمى (ساحة الريحان) لكثرة ما بها من هذا النبات، ويخرج من هذه الساحة ممر ضيق يوصل إلى فناء البركة، وطوله مائة وأربعون قدما وعرضه نصف ذلك، وبه بركة من الرخام تتألق فوقها الشمس، بها كثير من السمك ذي الألوان، وتزين جوانب هذا الفناء أعمدة ومشارف نادرة الصنعة، ويظهر إلى الشمال منه حصن «قمارش» تياها مخترقا الأفق، ويرفرف السكون والهدوء على هذا الفناء، حتى إن المرء لا يكاد يسمع فيه للماء خريرا وهو منطلق إلى البركة، وما أجمل تألق السمك الذهبي الكثير العدد بالبركة إذا واجهته أشعة الشمس!! وما أروح أن يحس المرء فيه بأنه في عزلة عن الدنيا!! فإن أثرا من آثار الحياة الصاخبة لا يصل إليه؛ إذ كل ما حوله هدوء مطلق لا يبعث في النفس الملالة، فهو طلل صامت رزين هادئ، يصور الموت والدمار، ولن يستطيع المرء وهو يراه إلا أن يشعر بالعطف والإكبار والحب لبناة هذا القصر الأولين.
فإذا مررنا من فناء البركة أو القاعة الزورقية إلى بهو الرسل (السفراء) تخيلنا أيام ازدهار دولة المسلمين، وكدنا نبصر في صدرها خليفة الأمويين جالسا على عرشه في عظمته وجلاله.
فإذا أشرفنا من النافذة المطلة على سهل حدرو ذكرنا كيف أن عائشة زوج السلطان أبي الحسن أدلت منها ابنها أبا عبد الله محمدا في زنبيل منذ خمسة قرون، وكيف أن شارل الخامس قال مرة وهو مشرف منها: «ما أشقى من يفقد كل هذا!»
وفي أثناء بحثنا عن التخطيط المشتبك المعقد لهذه الأطلال، نجد أنفسنا في مخدع الملكة الذي تطل نوافذه على المرج الفسيح الفياح، فتعود بنا الذكرى إلى العهد القديم وما كان فيه من بلهنية ونعيم ورفه؛ لأننا نرى بين صفوف المرمر الذي رصفت به أرض المخدع شقوقا وفروجا بالقرب من مدخله، يحدثنا القصاصون عنها أن البخور وأنواع الطيب كانت تحرق تحت المخدع، فينفذ إليه شذاها من هذه الشقوق، فتتعطر أرجاؤه، وإذا أطللنا من إحدى نوافذه، رأينا بستان «لينداراجا» ورأينا بالقرب منه حمامات السلاطين المدلة بنحتها الرائع ورسومها العبقرية، وزليجها الجميل.
وبهذه الحمامات فوارة كان يسيل منها الماء في صوت إيقاعي كأنه يحاول الانسجام مع رنات الموسيقى التي كانت تهبط من المشارف، وقد جلس بها القيان يغنين ويعزفن لسيدات القصر، وهن ينعمن بالاستحمام، أو يضطجعن على الأرائك الذهبية، وقد نقر كل مستحم في صخرة عظيمة من المرمر، ووضع في غرفة سقفها من الزجاج المزين بالتهاويل، بينها صور من نجوم وورود ينفذ النور من خلالها.
وقد يكون بهو السباع أشهر جزء وأبدعه في هذا القصر، وإن كان أقل اتساعا من ساحة الريحان، وبهذا البهو مائة وثمانية وعشرون عمودا من المرمر، وضعت أجمل وضع، ونسقت أبدع تنسيق باجتماع كل ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، وفوق هذه الأعمدة صفف ليست سامقة الارتفاع، والبهو غني بروائع الفن ، مليء بنوادره.
ومن هذا البهو يصل الزائر من باب أبدعت الصناعة رسمه وزخرفه إلى قاعة بني سراج، سميت بذلك؛ لأن السلطان أبا عبد الله أمر بذبح بني سراج بها
12
ولا نزال اليوم نرى على أرضها نقطا من الدم، يزعم بعض الناس أنها بقية ما سال من دمائهم.
Página desconocida