فحينما أسقطوا أسرة المنصور من الحكم ثار العامة كعادتهم وشفوا غليل غضبهم بنهب قصر المنصور البديع الذي بناه في ربض قرطبة ليكون مقرا له ولرجال حكومته، وبعد أن انتهبوا ما فيه من الكنوز التي لا تقدر بثمن تركوه طعمة للنيران، واستمرت المذابح والنهب والاغتيال أربعة أيام لا ينهنه من حدتها أحد، وأصبحت قرطبة مجزرا.
وحينئذ جاء دور البربر، وانتهى حكم الصقالبة الجبارين بحكم البربر القساة الذين سمنوا ونعموا بانتهاب المدينة، فحيثما سار هؤلاء البربر سار القتل والنهب وسارت النار في إثرهم، فكم نهبوا من قصر ثم أحرقوه، وقد لاقت منهم مدينة الزهراء الجميلة التي كانت ريحانة الخليفة العظيم شر ما يلاقى؛ فقد استولوا عليها بخيانة ثم انتهبوها ثم أشعلوا فيها النيران، ولم يبق منها من بدائع الفن الرفيع التي زينها بها الخليفتان إلا كومة من حجارة سفع، ووضعوا السيف في حاميتها وفر سكانها معتصمين بالمسجد، ولكن البربر الذين خوت قلوبهم من الخشية والرحمة أحاطوا بهم، وذبحوا في بيت الله الرجال والنساء والأطفال (سنة 1010).
وفي هذا الوقت استقلت الولايات التابعة للخلافة بعد أن حطم الصقالبة والبربر العاصمة، ووضعوا على العرش خليفة بعد آخر، ونقلوا الخلافة من الأمويين إلى بني حمود، أو حاولوا تجربة حكم البلاد بمجلس يؤلف من الزعماء،
4
فأصبح لكل مدينة أو مقاطعة أمير مستقل، وذهبت في الهواء تلك الوحدة التي جمع بها المنصور مختلف الأهواء والأحزاب، ولم يرتح الإسبانيون أنفسهم لهذا الانتقال السريع، وإلى تمزيق الدولة إلى ولايات صغيرة، فرأوا والحزن ملء قلوبهم ما صارت إليه بلادهم، وكيف أصبحت نهبا مقسما بين الغرباء، فقد نعم البربر بالجنوب، وأخضع الصقالبة الشرق، أما البقية فقد سقطت بأيدي بعض محدثي النعمة والنفوذ، أو بعض الأسر القديمة التي نجت من ضربات عبد الرحمن الناصر أو المنصور القاصمة.
وكانت قرطبة وإشبيلية - وهما أعظم مدن الأندلس - تحكمان حكما جمهوريا في الصورة لا في الواقع؛ لأن سلطة رئيس المجلس كانت تشبه سلطة الإمبراطور كل الشبه، وحكم في النصف الأول من القرن الحادي عشر نحو عشرين أسرة مستقلة في نحو عشرين مدينة أو مقاطعة، ويسمى هؤلاء بملوك الطوائف، وبينهم: بنو عباد بإشبيلية، وبنو حمود بمالقة والجزيرة، والأدارسة بغرناطة، وبنو هود بسرقسطة، وكان أقوى هؤلاء بني ذي النون الذين ملكوا طليطلة، وحكموا بلنسية، ومرسية، والمرية.
وقد أحسن بعض هؤلاء الملوك الحكم وإن كان أكثرهم عتاة جبارين، غير أنه مما يعجب له أنهم كانوا جميعا غطارفة مثقفين يعضدون العلم والأدب، وكانت قصورهم مثابة للشعراء والمغنين؛ فقد كان المعتضد عالما أديبا شاعرا، ولكنه نصب ببستانه خشبا علق فوقها رءوس أعدائه الذين قضى عليهم، وكان يستبشر ويبتهج برؤيتها كل يوم.
وقصارى القول إن المملكة كانت في حالة من الفوضى والاضطراب تشبه ما وصلت إليه عند تولية الخليفة الناصر، نعم، إنه لم يقم بها عصيان من المسيحيين كما كان من ابن حفصون أيام الناصر، ولكن الفوضى كانت عامة، والخطر من سقوط الدولة وتحطمها كان بارزا للعيان؛ فإن نصارى الشمال استجمعوا للوثوب، ورأوا الفرصة سانحة فهموا لاهتبالها؛ لأن ألفونسو السادس (الأذفونش) الذي وحد تحت إمرته أستورياس، وليون، وقشتالة، كان قد فهم ما يجب أن يفعله تمام الفهم؛ فقد رأى أنه لم يكن عليه إلا أن يمد حبله لملوك الطوائف مدا كافيا ليشنقوا به أنفسهم؛ لأن هؤلاء الطغاة الذين لم ينظروا في العواقب، ولم يعنوا إلا بأنفسهم، ولم يتركوا جهدا إلا بذلوه في إضعاف منافسيهم - كانوا يجثون عند قدمي ألفونسو لاستجداء معاونته كلما ضعفوا عن مقاومة إخوانهم المسلمين؛ لذلك تقربت كل الدويلات الإسلامية إلى ألفونسو بتقديم الإتاوات، وكان ألفونسو يزيد فيها كل عام كلما زادت قوته؛ لأنها ثمن عطفه وحمايته، ولأنه كان يريد أن يرضخ المسلمون من المال ما يكفي لمحوهم ومحو آثارهم من إسبانيا.
وقد بذل ملوك الطوائف هذه الإتاوات للاستعانة بجيوش ألفونسو، أو للخوف من غاراته العنيفة التي كان يشنها في كل مكان، حتى لقد وصلت جنوده إلى قادس.
وكان شمال إسبانيا فقيرا ممحلا، وكان من أضاحيك القدر أن يجمع ألفونسو من ملوك المسلمين ما يعد به العدة لدمارهم، على أنه مهما اختلف هؤلاء الملوك وتحاسدوا؛ فقد كان لصبرهم على ألفونسو حد يقفون عنده، فإنهم تيقظوا من سباتهم وأحسوا بالخطر المحدق بهم، وعملوا على دفع الكارثة عنهم حينما علموا أن ألفونسو اخترق الأندلس على جواده آمنا مطمئنا حتى وصل إلى أعمدة هرقل فنزل ليبترد في المحيط، وحينما رأوا أنه وضع حامية تزيد على اثني عشر ألفا من الجنود الشجعان في حصن ليط، وهو في وسط بلاد المسلمين ومنه كانت تخرج جنوده لتعيث وتنهب وتغير، وحينما علموا أن لذريق البيفاري أو السيد الكمبيدور
Página desconocida