وكان البربر أكثر عددا من العرب، وأشبه بهم في السخط والعصيان، فخلعوا ربقة الطاعة للأمير، وعادوا إلى نظام القبائل، واستقلوا بالولايات الغربية مثل: استرامادور، وجنوب البرتغال، واحتلوا مراكز عظيمة الشأن في الأندلس نفسها كمدينة جيان، وكانت أسرة ذي النون البربرية تتألف من أبيهم موسى وهو شرير كبير ولص بغيض، ثم من أولاده الثلاثة الذين أشبهوه في قوته وقسوته
2
فدهمت هذه الأسرة الأندلس كلها بالسيف والنار، وعاثت بالفساد في جميع نواحيها تحرق وتنهب وتقتل أينما سارت.
وكان الإسبان المتسلمون الذين صقلتهم مدنية العرب بعض الصقل، أقل وحشية من البربر وإن لم يقلوا عنهم في بغض الحكومة، فاستولوا على ولاية الجرف في الزاوية الجنوبية الغربية من شبه الجزيرة، وملكوا عددا عديدا من المدن والولايات المستقلة بالأندلس، وفي الحق إن معظم المدن العظيمة كانت في ثورة مقنعة أو سافرة، فقد اتحد حكام العرب وزعماء البربر والإسبان المتسلمين على معارضة الأمير والاستهانة بأمره، وكان ابن حفصون أكثر هؤلاء قوة وأشد مراسا، وهو مسيحي
3
أثار سكان الجبال بغرناطة، وأقام في حصانة معقله ببشتر (بوباستور) يحكم ويشرع للبلاد حوله، وطالما جرد الأمير عليه جيوشا فآبت بالخذلان والهزيمة، ثم التجأ الأمير آخر الأمر إلى مصالحته وملاينته، ولكن ابن حفصون كان في هذه الناحية أوسع منه حيلة وأشد مكرا،
4
وكانت مرسية مستقلة يحكمها أمير متسلم، حكما رفيقا حازما، فأحبته رعيته، ولم يغفل مع ولوعه بالشعر والأدب عن تحصين مملكته بجيش عظيم، عدته خمسة آلاف فارس، وكانت طليطلة كعادتها ثائرة صاخبة، ولم يعق نصارى الشمال عن الاستيلاء عليها واسترداد ملكهم المسلوب إلا ما شجر بينهم من خلاف وانقسام.
هكذا كانت حال الأندلس، وهذا ما آل إليه أمرها؛ فقد أصبحت ممزقة الأشلاء، منبتة الأواصر، تبعثرت فيها المقاطعات المستقلة التي صارت أشبه بالضياع منها بالولايات التي تكون دولة قوية، وصارت أعجز من أن تقف في وجه فاتح قوي عزوم.
وكانت تلتمع أحيانا أشعة من النور في ظلام هذه الفوضى القاتمة؛ فقد ذكرنا آنفا أن حاكم مرسية كان أديبا مثقفا كما كان يشتهر حاكم قسطلونة بإغداقه على الشعراء ورجال الفنون، وكان يعيش في قصر فوق أعمدة من الرخام، غطيت حيطانه بزخارف من المرمر والذهب، واشتمل على كل ما تشتهي النفس من النعيم.
Página desconocida