وثبتت فلورا وماري على عزمهما فلم تتحولا عنه على الرغم مما بذله القاضي من جهود لإنقاذهما، فحكم عليهما بالموت، وقبل أن يحكم عليهما قابل يولوجيوس فلورا آخر مرة، وقد كتب عن هذا اللقاء فخورا بهذا الفوز الروحي: «لقد تصورتها ملكا كريما، وقد أحاطت بها هالة قدسية وأشع وجهها بالسعادة والفوز، كأنما كانت تحس بمباهج جنات النعيم، ولقد حاولت حينما سمعت الكلمات التي تحدرت من فمها العذب أن أثبت إيمانها، فأريتها التاج الذي أعد لاستشهادها، لقد عبدتها وجثوت أمام هذا الملك السماوي، ثم رجوتها أن تذكرني في صلواتها، وحينما بعث حديثها في نفسي قوة واعتزاما عدت إلى سجني الموحش.»
قتلت فلورا وصاحبتها في الرابع والعشرين من نوفمبر سنة 851م/237ه وكتب يولوجيوس بعد موتها قصيدة تفيض بالسرور والبهجة تمجيدا لهذا الحادث الذي ظنه انتصارا عظيما للكنيسة.
بعد ذلك بقليل أطلق سراح يولوجيوس وغيره من القساوسة، وفي السنة التالية مات عبد الرحمن الأوسط وخلفه ابنه محمد، وكان قاسيا جامد العاطفة موصوفا بالأثرة، مصادرا لوزرائه، فأبغضه الناس عامة، ونعوا عليه جشعه وفسولته، ولم يحبه إلا الفقهاء؛ لأنهم توسموا أنه سيبطش بالمسيحيين الذين سخروا من المسلمين ومن دينهم، وكان هذا التوسم صادقا؛ فقد هدمت الكنائس، واتخذت وسائل عنيفة للاضطهاد، فأسلم كثير من النصارى بعد الأفواج التي دخلت في الإسلام حينما قرر مجلس الأساقفة استنكاره حوادث الانتحار الذي دعي استشهادا.
واغتبط يولوجيوس والفارو بهذه الشدة، وزعما أنها دعت كثيرا من المتسلمين إلى العودة إلى المسيحية، وتغيرت تلك السياسة الحكيمة الشفيقة، سياسة عبد الرحمن الأوسط ووزرائه التي كانت تغمض العين عن نزوة المسيحيين وطيشهم، وتلتها سياسة قاسية عسوف، فلم يكن عجيبا أن يفر المسيحيون بأنفسهم إلى الإسلام.
ولكن كل هذا لم يطفئ جذوة المتعصبين؛ فقد زادها الاضطهاد اشتعالا، وامتد شررها إلى خارج قرطبة، ورسمت طليطلة يولوجيوس أسقفا لها، وحينما أبى الأمير الموافقة على هذا القرار، ترك مكان الأسقفية خاليا حتى تسنح الفرصة ليولوجيوس بشغله.
وقدم على قرطبة راهبان فرنسيان ليستجديا شيئا من آثار الشهداء، ثم عادا بحقيبة مملوءة بعظامهم لتعرض في باريس، ولكن عاصفة أخرى كانت موشكة الهبوب على المتعصبين، فقد هجرت فتاة أخرى أبويها لتلحق بيولوجيوس، فأحضرت هي وأستاذها أمام القاضي، وكانت تهمة يولوجيوس إغواء الفتاة على الارتداد، فعوقب بالجلد بالسياط، ولم يكن هذا القسيس الضعيف الناحل ممن يتحملون السياط، إنه كان شديد الخشوع لله متقبلا في سبيله كل تضحية، راغبا أن يلقى في نصرة دينه كل ضروب العذاب، ولكنه لم يحتمل أن يسوطه المسلمون، فصاح أمام القاضي: عجل بسيفك أيها القاضي، وابعث بروحي إلى ربها، وإياك أن تظن أن ألقي بجسدي إلى سياطك، ثم أخذ يقذف الإسلام بسيل من الشتائم والسباب.
وهنا تحرج القاضي وأبى أن يحمل تبعة قتل زعيم مثله، فأمر بعرضه على مجلس الدولة، وفي هذا المجلس أخذ بعض الأعضاء يحاجه ويهدئ من ثورته، ويعجب كيف أن رجلا عاقلا مثقفا مثله يقذف برأسه طواعية، بين أنياب الموت، ثم قال له: لو فعل هذا رجل أبله أو مجنون ما أثار عجبي، ولكن صدوره من مثل يولوجيوس هو العجب كله، ثم همس في أذنه قائلا: «أنصت إلي؛ إني أرجوك أن تخضع مرة للضرورة، وأن ترجع عما قلته أمام القاضي، قلها كلمة واحدة، تجد نفسك حرا طليقا.»
ولكن هذا النصح جاء بعد أوانه، نعم إن يولوجيوس كان يؤثر تخريج الشهداء وإثارتهم على أن يخط لهم المثال بنفسه، ولكنه رأى أنه لا يستطيع الآن التقهقر موفور الكرامة، وأنه يجب أن يصابر ويثابر إلى النهاية ، وحينما أبى أن يتراجع حكم بقتله، فمات شجاعا مخلصا في الحادي والعشرين من مارس سنة 859م/244ه وحين فقد المسيحيون زعيمهم سرى اليأس إلى قلوبهم، ولم نعد نسمع لهم ضجيجا مرة أخرى.
هوامش
الخليفة العظيم
Página desconocida