بالقسطنطينية والمولوية في كثير من مدن الشرق - ما للحماسة الدينية من الشأن في أوقات الاضطراب، واليوم أخذت تظهر هذه النعرة بالأندلس خطيرة منذرة بالسوء.
وتأجج أول عصيان بعد موت عبد الرحمن من حيث لا يرتقب، لم يحدث من المسيحيين، ولم يحدث من قبائل العرب وعشائر البربر، وإنما حدث من أبناء الإسلام المخلصين، حدث من فقهاء قرطبة، وكان معظم هؤلاء الفقهاء من المتسلمين أو أبنائهم، وقد ذكرنا آنفا أن الإسبانيين أسلموا برغبة وحماسة فأصبحوا كشأن كل داخل في دين جديد أكثر تعصبا من المسلمين أنفسهم، وكان عبد الرحمن أبعد نظرا وأكثر علما بالحياة من أن يسمح لهؤلاء الفقهاء - وبخاصة الإسبانيون منهم - بنفوذ له وزن أو قيمة، ولكن التقي هشاما لم ير الخطر الذي كان يخشاه أبوه، ولو رآه ما عده خطرا، فكان يميل إلى وضع ثقته في رجال الدين المحافظين عليه، المتبعين طريقه، الذين لم ير في أعمالهم بادرة ميل إلى الدنيا أو حب للظهور، وكان على رأس الفقهاء في هذا الحين رجل عبقري المواهب وافر العقل، كان تلميذا محبوبا لأحد أئمة المدينة المنورة،
14
وقد تملك نفسه من الحماسة الدينية والطموح السياسي مزيج طالما جر الممالك إلى الخراب، هذا الشيخ هو يحيى بن يحيى الليثي
15
الذي رأى في إخلاص هشام وتقواه فرصة لرفع الفقهاء بقرطبة إلى قمة من القوة والنفوذ لو علم بها عبد الرحمن الداهية لتفزز في قبره.
وكانت الأمور تسير سيرا حسنا ما نالت هذه الطائفة رغباتها، غير أنه في سنة 796م/180ه بعد أن انتقل هشام إلى رحمة ربه، طرأ على قصر الخلافة تغير عظيم، لم يكن الأمير الجديد «الحكم» قليل الاهتمام بالدين أو خليعا مستهترا، ولكنه كان مرحا يحب الحياة ويتمتع بها كلما أقبلت عليه، ليس به صفة من صفات الزهد والتقشف، وكانت هذه الأخلاق وأشباهها بغيضة إلى المتزمتين، فانطلقوا يتحدثون بمثالب الأمير في ذعر وإشفاق ويدعون له بالمغفرة والتوبة، ثم تجاوزوا الحد فسبوه في وجهه وصبوا عليه اللعنات، ولما يئسوا من إصلاحه تآمروا على عزله وإجلاس آخر من أسرته مكانه، ولكن المؤامرات خابت، وكان جزاء المتآمرين أن صلب الأمراء الذين اشتركوا في المؤامرة وبعض الفقهاء المتعصبين، وقد كان يكون مثل هذا كافيا لولا أن الفقهاء عادوا إلى الثورة، فعاد الأمير إلى إطفائها باستئصال مشعليها، ولكن القرطبيين لم يرعووا بعد كل هذا، وبقيت مراجل الثورة تغلي في قلوبهم، ولم يرعبهم ما سمعوه مما أصاب زعماء طليطلة الذين أظهروا العصيان كعادتهم، والذين استدرجهم ولي العهد بالحيلة والخديعة، حتى إذا قبض عليهم أفناهم ذبحا وتقتيلا.
بقيت ذكرى يوم الخندق «الذي سميت به مذبحة طليطلة» كابحة جماح المتعصبين والمشاغبين في قرطبة سبع سنين، ولما نصلت ذكرى ذلك الخندق المخيف الذي قذف فيه بجثث زعماء طليطلة، شرعت الفتنة تطل برءوسها في قصبة الأندلس، ولم يزدد بغض الأهلين للأمير؛ لأنه أبى أن يلبس الخشن من الثياب، وأبى أن يتراءى بالزهد والتقوى أمام أمته، بل كان يتجه هذا البغض أكثر ما يتجه إلى مماليك الأمير الذين كانوا يدعون «بالخرس»، سموا بذلك لأنهم كانوا من الزنوج وأشباههم الذين كانوا لا يستطيعون التكلم بالعربية، وكان هؤلاء الزنوج لا يجرؤون على السير في شوارع المدينة إلا جماعات؛ لشدة كراهية الناس لهم وتحفزهم لإيذائهم، وإذا خرج جندي وحده كان عرضة للضرب أو القتل، وحدث يوما أن ضرب أحد هؤلاء الجنود بعض العامة فثارت ثورتهم جميعا، وهجموا بقلب رجل واحد على القصر، يقودهم آلاف من الفقهاء الذين كانوا يسكنون الربض الجنوبي لقرطبة، وصاح الشر بينهم وطاشت عقولهم وصمموا على أن يقتحموا القصر على الرغم من حصونه وحراسه، فأطل الحكم من إحدى النوافذ فرأى بحرا زاخرا من الوجوه، وأبصر - والدهش يملأ نفسه - شدة مكافحة العامة لهجمات فرسانه، ولكنه لم يفقد هدوءه في هذه الساعة المحفوفة بالمخاطر، وتلك ميزة العظماء وشنشنة النسب الكريم، فعاد إلى بهوه، وأمر خادمه الخاص أن يحضر له قارورة الغالية، وأخذ في تؤدة وثبات يضمخ رأسه ولحيته، ولم يستطع فتاه يزنت أن يكتم عجبه من فعل سيده وهو يسمع تهشيم الشعب المفترس للأبواب، فقال: أهذا وقت الغالية يا مولاي؟! ولكن الحكم قاطعه قائلا: اسكت أيها الغر، كيف تتصور أن يتعرف العصاة رأسي بين بقية الرءوس إذا لم يتميز بريحه العطرة؟! ثم نادى قواده وشرع في اتخاذ الوسائل للدفاع، وكانت هذه الوسائل غاية في السهولة وقوة الأثر، فقد أرسل ابن عم له مع بعض الفرسان من طريق خلفية إلى الربض ، فأشعل فيه النار، فلما رآها المشاغبون غادروا القصر وأسرعوا في ذعر وفزع لإنقاذ زوجاتهم وأطفالهم من اللهيب، فانقض الحكم وحراسه على مؤخرتهم، ووقع العصاة بين قوتين فحطموا تحطيما، وجال بينهم «الخرس» يقتلون بالمئات ولا يستجيبون إلى توسلاتهم وصياحهم المؤلم بطلب الرحمة، وانتهت الثورة بمذبحة عامة، ونجى الحكم بهذه الضربة القاصمة قصره وسلالته.
وكان الأمير كريما فقبض يده عن الإيذاء بعد انتصاره، ولم يجاوز به الحد، واكتفى بهدم دور العصاة بالربض ونفيهم، فرحل بعضهم إلى الإسكندرية وكانوا نحو خمسة عشر ألفا غير النساء والأطفال، وبعد أن أقاموا بها قليلا أبحروا منها إلى إقريطش (كريت) ورحل ثمانية آلاف إلى (فاس) وكانت جمهرة هؤلاء المنفيين من أبناء الإسبانيين المتسلمين الذين كانوا يرحبون بكل فرصة يظهرون فيها بغضهم لحكم العرب، وترك الفقهاء - وهم أس العصيان والثورة - بلا عقاب، إما لأن كثيرا منهم من أصل عربي، وإما لمنزلتهم الدينية، وقد جر أحد زعمائهم إلى القصر جرا، فصارح الحكم في حدة غضبه وتعصبه بأنه ببغضه للأمير إنما يطيع أمر الله، فأجابه الحكم جوابه المأثور إذ قال: «إن الذي أمرك - كما تزعم - ببغضي أمرني بالعفو عنك، اذهب في رعاية الله.»
هوامش
Página desconocida