8
وأمر عبد الرحمن في إحدى نوبات قسوته التي شوهت من سيرته، أن توضع رءوس قوادهم في جوالق، وأن يعلق بكل أذن صك يرقم عليه اسم صاحبه، وأن يبعث بهذا الجوالق مع أحد الحجاج ليوصله إلى الخليفة المنصور نفسه، وذهب الحاج وبلغ حضرة المنصور وسلم إليه الجوالق.
9
فلما رأى الخليفة ما به اشتد غضبه، واحتدم وجهه بالغيظ، ولكنه لم يستطع إلا أن يقول: «الحمد لله أن كان يفصل بيني وبين هذا الرجل بحر.» وعلى الرغم من شدة ألم المنصور لفوز أمير قرطبة، لم يجد بدا من أن يطري مهارته وشجاعته، حتى إنه سمى عبد الرحمن (صقر قريش)، وكان يقول: «لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه وقوة أسبابه، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذي الفذ في جميع شئونه، وعدمه لأهله ونشبه، وتسليه عن جميع ذلك ببعد مرقى همته، ومضاء عزيمته، حتى قذف بنفسه في لجج المهالك لابتناء مجده، فاقتحم جزيرة شاسعة المحل نائية المطمع، عصبية الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته، وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته، واستمال قلوب رعيتها بسياسته، حتى انقاد له عصيهم، وذل له أبيهم، فاستولى فيها على أريكته ملكا على قضيته، قاهرا لأعدائه، حاميا لذماره مانعا لحوزته، خالطا الرغبة إليه بالرهبة منه ... إن ذلك لهو الفتى كل الفتى، لا يكذب مادحه.»
وتوالت بعد هزيمة العباسيين انتصارات للأمير الجديد، فإنه أغرى أهل طليطلة الذين امتنعوا عليه طويلا، بأن يعقدوا معه صلحا، وأن يبعثوا إليه برؤسائهم، وما كاد يصل إليه هؤلاء الرؤساء حتى صلبهم جميعا، وكان رئيس اليمانية شديد الخطر، فمنحه عبد الرحمن الأمان، ثم استهواه إلى قصره وحاول أن يقتله بنفسه فلم يستطع؛ لأن الرجل كان قويا شديد الأسر، فدعا إليه بحرسه فقتلوه.
10
وبعد ذلك بقليل ثار البربر في الشمال ثورة جامحة، فقضى عبد الرحمن عشر سنين في كبح جماحهم وتذليل شماسهم، وكانت نار الغضب لم تخمد بعد في قلوب اليمانية لقتل رئيسهم، فهبوا للثأر، واغتنموا غيبة الأمير في الشمال، وكانوا يجهلون نشاط الرجل ودهاءه ومكره، فإنه بعد أن أطفأ ثورة البربر في الشمال وأذلهم ببث الفتنة بينهم، أخذ يعمل للتفريق بين اليمانية، فخدع البربر الذين كانوا قوام جيشهم، ومناهم الأماني، فتركوا القتال عند اشتداده، فانقض بجيوشه على اليمنيين فاستأصلهم، وقتل منهم ثلاثين ألفا، دفنوا جميعا في قبر عظيم بقي الناس يزورونه مدة من الزمان، ثم تلت هذه المعركة المعاهدة المنذرة بالخطر التي عقدها شارلمان مع ثلاثة من زعماء العرب الساخطين، والتي كادت تدمر الصرح الذي بناه عبد الرحمن بعد جهد وآلام، ولكن هذه المعاهدة لم تتم، وانحل عقدها في معارك سرقسطة، ورونسسفال من غير أن يضرب فيها الرجل الذي اجتمعوا لسحقه ضربة واحدة.
ومنذ ذلك الحين أخذ الأمير ينعم فيما يشبه السلم بثمرات جهاده وانتصاره؛ فقد أخضع بعزيمته الفولاذية كل العناصر المعادية له بإسبانيا، وأسقط كل زعيم صلف أصيد جرؤ على أن يستل لحربه سيفا، وقتل وذبح قواد البربر، وأثبت غير منازع أنه سيد الموقف، ولكن ظلما قاسيا ناكثا للعهد كظلم عبد الرحمن لا بد أن يجر وراءه عقابه وآلامه، فإن الظالم قد يستطيع إخضاع قومه ولكنه لن يستطيع أن يفوز بإخلاصهم، والملك الذي ينال بالسيف لا يبقى إلا بالسيف؛ فقد نفر الناس من الأمير الأموي بعد أن تجرعوا مرارة حكمه، وأبى الأمناء من رجال الدولة أن يدخلوا في خدمة رجل خداع فتاك مثله، وانصرف عنه أنصاره الأولون الذين آزروه ورحبوا بمقدمه حينما رأوا ظلمه صارخا، وقسوته مهتوكة الأستار، ودبر له المكايد مرة بعد أخرى أهله الأقربون الذين احتموا بقصره من العباسيين، لما ظهر لهم من عسفه الذي لا يطاق، ففقدوا في سبيل ذلك رءوسهم.
11
نبذ الناس عبد الرحمن فبقي وحيدا محزونا، هجره أصدقاؤه، ويئس منه أعداؤه فصبوا عليه لعناتهم، ونصب له الحبائل أهله وخدامه.
Página desconocida