وبغير ذلك على رأي «جان بول» لا وجود للعظمة الإنسانية؛ وبناء على ما تقدم يسهل تصور التأثير الذي أثره أليكسي على تلك الأوانس الفاتنات؛ فإنه أول شاب ظهر أمامهن عبوسا مخيبا آمالهن، وأول من روى لهن عن المسرات الخاسرة وعن ذبول شبابه قبل أوانه، وفضلا عن ذلك كان يحمل في أصبعه خاتما أسود منقوشا على فصه رأس ميت، وجميع هذا جديد في تلك الولاية، الأمر الذي كادت معه الأوانس تصاب بمس في عقولهن.
وانشغلت به أكثر من الجميع ليزا ابنة غريغوري المتكلنز أوبيستي كما يدعوها أبوها، ومعلوم مما تقدم أن والديهما ما كانا يزوران بعضهما، وهي لم تر الشاب أليكسي غير أنه كان موضوع حديث وسمر الفتيات الحسان جاراتها، وكان لها من العمر سبعة عشر عاما، إن عينيها السوداوين كانتا تلقيان على وجهها الأسمر اللطيف نورا من الجمال وهي فتاة وحيدة مدللة، وكانت حركاتها المتوالية وطيشها وسكناتها تجلب السرور لفؤاد والدها، والغم والكدر لمس جاكسون مربيتها الإنكليزية، وهي عانس متكبرة جاوزت الأربعين وتكثر من تبييض وجهها وتزجيج حاجبيها، وكانت تقرأ على مسمع «باميل» الكتب وتتقاضى على ذلك ألفي روبل
1
في السنة، وكادت روحها تزهق في روسيا المتوحشة في ذلك العهد.
دخلت الوصيفة ناستيا غرفة ليزا وهي أكبر منها قليلا، وهي فتاة طائشة كسيدتها، وكانت ليزا تحبها كثيرا وتفضي لها بجميع أسرارها، وكانتا معا تبتكران أنواع الطيش والأفكار الصبيانية، ولها في قرية «بريلوتشينا» مقام ممتاز عن غيرها وخصوصا في منزل والد ليزا.
وفيما ناستيا ذات يوم تساعد ليزا على ارتداء ملابسها، قالت لها: أرجوك أن تأذني لي بالذهاب للضيافة إجابة لدعوة جاءتني. - فليكن، ولكن إلى أين؟ - إلى منزل بيريستوف، فإن زوج الطاهي اليوم عيدها الأسمى، وجاءت أمس ودعتني لتناول الغداء.
فقالت ليزا: كذا كذا! الأسياد في نزاع وخصام والخدم يضيفون بعضهم بعضا. - ما لنا والسادة! أنا لك ولست لوالدك، وأنت لم تخاصمي بيريستوف الصغير، وأما الشيخان فليتخاصما وليتنازعا إذا كان ذلك يعود عليهما بالسرور والارتياح. - ابذلي وسعك يا ناستيا لرؤية أليكسي بيريستوف ثم قصي علي جيدا بعد ذلك ماهية هذا الشاب وماذا يكون من الناس، ولا تتركي شاردة أو واردة عنه إلا وأخبرتني بها.
فوعدتها ناستيا بإتمام رغبتها، ولبثت ليزا طول اليوم تنتظر بفروغ صبر عودة ناستيا، ولما عادت مساء قالت وهي داخلة الغرفة: قد رأيت يا ليزا أليكسي الشاب وتفرست فيه مليا، وطول النهار كان معنا. - كيف ذلك؟ قصي على مسامعي كل شيء بالترتيب. - سمعا وطاعة: ذهبت وإنيسيا إيغورفنا ونيفيلا ودونكا. - أعرف هذا، وبعد ذلك. - هأنذا أروي لك مفصلا: وصلنا المنزل ساعة الغداء فألفينا الغرفة ملأى بالمدعوين وجلهن من السيدات. - وبيريستوف الشاب؟ - اصبري قليلا، جلسنا جميعنا حول المائدة الفخمة وعليها من أنواع الأطعمة أشهاها، وبعد أن أكلنا مريئا وشربنا هنيئا مدة ثلاث ساعات متوالية قمنا وذهبنا إلى الحديقة حيث أخذنا نلعب ونلهو، وفيما نحن على تلك الحال ظهر أليكسي. - وهل صحيح ما يقال عنه: إنه جميل بهي الطلعة؟ - نعم إنه جميل وجميل جدا، معتدل القامة، ذو وجنتين يكاد الدم يخرج منهما. - أمر عجيب! إني كنت أقدر أنه أصفر الوجه، ولكن كيف رأيته أنت؟ هل كان عبوسا كئيبا كثير التفكير؟ - ما هذه التصورات يا سيدتي؟! إنه على غير ما تزعمين؛ فإنه طلب إلينا أن يشاركنا في اللعب والجري. - يجري معكن! هذا أمر مستحيل! - بل صحيح، وصرح بأنه سيقبل كل فتاة يقبض عليها في أثناء اللعب والركض. - إنك تكذبين وتفترين يا ناستيا. - إنني لم أقل غير الحق، وأنا بنفسي تخلصت منه بكل صعوبة، ولبث معنا طول الوقت في اللهو واللعب. - ولكن كيف يقولون: إنه يحب، وإنه لا يلتفت إلى أحد مطلقا؟ - لا أعلم، وإنما أقول: إنه كان موجها نظره إلي وإلى تانيا وباشا، ولكنه لم يهن واحدة منا. - هذا أمر غريب! وما يقولون عنه في المنزل؟ - يقولون: إنه شاب ظريف، طيب، لعوب فكه، لا تفارق الابتسامة ثغره، وصفة واحدة فيه غير محمودة وهي أنه يجري كثيرا وراء الأوانس الحسان، ومن جهة أخرى أن ذلك ليس بالأمر المشين؛ فإنه يوافق ظروف هذا العصر.
فتنهدت ليزا، وقالت: أتمنى من صميم فؤادي أن أراه. - الأمر على غاية السهولة، فإن قرية توغيلوفو لا تبعد أكثر من ثلاثة كيلو مترات، بل المسافة بيننا وبينها دون ذلك، اقصدي تلك الجهة للرياضة أو امتطي صهوة جوادك فإنك ترينه لا محالة؛ لأنه كل يوم يتقلد بندقية ويخرج مبكرا للصيد. - هذا رأي غير مناسب؛ لأنه سيظن أني أجري وراءه، ومن جهة أخرى إن والدي ووالده متخاصمان ولا يليق بي في هذه الحالة أن أتعرف به، ولكن هل تعلمين يا ناستيا ما خطر ببالي؟ أرتدي ثياب قروية بحيث تصعب عليه معرفتي. - هذا رأي حسن جدا، ارتدي قميصا غليظا وجلبابا فضفاضا، وسيري بجرأة إلى توغيلوفر، وإني كفيلة بأن بيريستوف لا يفلت من يدنا. - وأنت تعلمين يا ناستيا أني أحسن تقليد لهجة كلام الفلاحين، فما أحسن هذه الفكرة يا عزيزتي ناستيا! ثم اضطجعت في سريرها وهي عازمة على تنفيذ هذه الفكرة التي صادفت هوى في نفسها. وفي اليوم التالي همت لإتمام ما رسمته، فأرسلت وابتاعت من السوق كتانا (تيل) غليظا خشنا ونسيجا قطنيا أصفر وأزرارا نحاسية، وبمساعدة ناستيا خاطت لها قميصا وجلبابا، واستدعت جميع الخادمات لمعاونتها بالخياطة، وتم كل شيء عند المساء وارتدتها على سبيل التجربة، ولما وقفت أمام المرآة صرحت بأنها لم تر نفسها أجمل منها اليوم، ثم أخذت تمثل الدور الذي ستمثله، فانحنت مرارا وهزت رأسها وجعلت تتكلم بلسان الفلاحين، ثم تضحك وتغطي وجهها بكمها؛ فصفقت لها ناستيا تصفيق الارتياح والاستحسان. ووجدت صعوبة بأمر واحد وهو أنها جربت أن تمشي حافية في فناء المنزل فوخز العشب الأخضر رجليها الرخصتين، وشعرت بصعوبة غير محتملة في السير على الرمل والحصى، فساعدتها ناستيا في هذا أيضا فإنها قاست رجل ليزا وهرولت مسرعة إلى الراعي «تروفيم» في الحقل وطلبت منه أن يجهز لها خفا بحسب القياس الذي دفعته إليه.
وفي اليوم التالي قبل الفجر والشروق استيقظت ليزا بينما جميع الذين في المنزل نيام، ووقفت ناستيا أمام باب الدار تنتظر الراعي تروفيم، وما هي إلا فترة حتى نفخ في البوق واندفع قطيع القرية مارا بمنزل سيد القرية وناول الراعي ناستيا الخف، فوضعت بيده نصف روبل على سبيل المكافأة، وارتدت ليزا الملابس القروية وألقت أوامرها همسا على ناستيا بشأن مس جاكسون، وخرجت من الباب الخلفي عن طريق المبقلة
Página desconocida