كنت أدير مكتبة في مصيف تائه وسط البحيرات، وهناك كنت أقضي إجازات الدراسة حيث أعيد بيع الكتب التي أكون قد اشتريتها أثناء العام مضافا إليها عدد آخر أحصل عليه بالتخفيض، وكان كل ما أملك من الكتب لا يعدو ملء أربعة صناديق، وكانت مرصوصة على رفين يضفي عليهما شيئا من الحيوية تمثال من الخزف، وفي هذا العام كنت قد اشتريت أيضا نسرا رماديا ووعلا.
كانت ميلا ترتدي ثوبا طويلا من قطعة واحدة يلفها كأنه القفاز، وكان ثوبا أسود محلى بأزرار من الصدف وينزل من عنقها إلى حذائها الذي يمسه، وكانت تأتي منذ أربع سنوات كل أسبوع لتختار كتابا تقرأه، ثم ترده، وقد اعتادت كتبي لمس أصابعها الشقراء الحانية وراحة يدها الوردية، وذات أصيل تأخرت وخبا الضوء وانتشر الظلام.
وتهافتت الأحاديث متباطئة كأنها العربات المحملة بأعشاب من الظلال تجرها ثيران هادئة، وأضاء مصباح في أحد الأدوار من الناحية الأخرى للطريق ثم مصباح آخر، وأخذت واجهات المحلات تتلألأ، وأمواج من خيوط الذهب ترتسم على مسافة أبعد في واجهات أخرى.
وخرجت من صمت لأستيقظ في قلب صمت آخر.
وفي مواجهة المكتبة، رفع جزار سكينا طويلة فوق فخذة خنزير مجففة لكي يبدأ في تقطيعها بمجرد أن تصدر له التعليمات من سيدة ذات عوينات بمقبض، بينما شاربه الأحمر يصفر في أذنيه.
ومثله كنت أتساءل: كيف أقطع الصمت المظلم في مكتبي؟ فقطعه يستثير الفكر، والفكر يجلب الصمت، صمتا عميقا كالنوم، وتحت مصباح مجاور عكس فجأة شعاعه في زرقة عينيها، لمحت دموع ميلا التي كانت تتساقط منذ وقت طويل دون أن أفطن إليها، وقد دفنت وجهها بين يديها، وكأنها تمثال نافورة في بستان، وهي تبكي في هدوء.
كانت دموعها بالنسبة إلي كأنين الزمن عندما يقترب الظلام، وكتنهدات الألفاظ المرصعة في أشعة تمزقها الأظافر، وكأنها العصافير الجريحة التي تخلت عنها روح معذبة.
لقد كانت الزهور والحقول والغابات هي التي تبكي، بل وربما أيضا مطر الخريف الرمادي، وكأن جوقة من القيثارات ترتعد في الفضاء، وزهرات أقحوان الغابات اللدنة تهتز فوق سيقانها الرهيفة، وكأنها لباب الذهب، وأشجار وهمية تلقي أوراقا وهمية على مخمل الطريق الذي تجوبه رعشة صدى يتيم.
وخطر لي أن أدير محول الكهرباء الموجود إلى جانبي، ولكنني شعرت بيدي يغزوها خدر عذب، وأحسست كأنني قد انغمست في ماء عميق فاتر هادئ لم تجرؤ ذراعاي أن تبرزا منه، وكثف الظل وكأن كتبي وجميع أشيائي قد نشر فوقها بساط من الزغب والعشب والحشائش.
وقالت أزهار النباتات المشعة للضوء: إن القمر سيظهر قريبا.
Página desconocida