التفتيش بالذوق
ارفع يدك فوق
التفتيش بالذوق
يقابلونك بابتسامة، ويشيعونك بأخرى وهم يطلقونك لداخل حدودها، تقابلك الخيام المتناثرة، وترى الناس يعملون كخلية نحل، يقسمون المهام بينهم. في أعلى نفق الجامعة تجمع العشرات وهم يطرقون على صفيح الجسر بإيقاع حماسي رتيب، مجموعات صغيرة متناثرة هنا وهناك، يمارسون نشاطات متعددة، يعزفون الموسيقى، يقرضون الأشعار، يرددون الهتافات، يتسامرون فيما بينهم، كان مجتمعا مصغرا يمارس حياته بكامل تفاصيلها أمام بوابات القيادة العامة للجيش، تجمع السودانيون بكل أطيافهم وقبائلهم ومشاربهم، جاءوا من كل الفيافي والهضاب والنجوع مستبشرين بفرحة الاستقلال الحقيقي للبلاد، عيد الانعتاق من شرور عصابة آثمة ظلت جاثمة على أنفاسنا ربع قرن من الزمان، جماعة منحرفة الفكر والسلوك، لم يشهد الإنسان السوداني على مر تاريخه الضارب في القدم، شرا كشرهم، ولا سوءا كسوئهم، ولا فسادا كفسادهم، خرجوا من عباءة الشيطان وحملوا وعوده الغرورة، أشاعوا العنصرية والجهوية بين أبناء الوطن الواحد، قتلوا الإنسان، ودمروا الأخلاق، حرفوا الكلم عن مواضعه وشوهوا دين الله، عربدوا في البلاد، وعاثوا فيها قتلا وسحلا وفسادا وتجهيلا.
وعندما ضاق الحال وازداد البؤس من سوء إدارتهم، انتفض الشعب بكل قوته ورماهم في مزابل تاريخه، من الحكمة دوما أن تترك لضحاياك شيئا ما يخشون فقدانه، وبعض الخيارات ليفكروا فيها، لكن أن تكون ساذجا وتأخذ كل شيء فستواجه بالثورة حتما ...
جاء الناس بالآلاف، بالقطارات والسيارات والأقدام ليحجوا إلى أرض الاعتصام من الشمال جاءوا، والجنوب والشرق والغرب، جلبوا معهم ابتساماتهم، وأهازيج فرحتهم، وحمدهم لله، نصبوا الخيام وأقاموا الاحتفالات، وشاركت المرأة السودانية بطريقة لم يعهدها السودان في كل ثوراته الماضية، كن يتقدمن المواكب، ويصدحن بالهتاف، يقفن في وجه قنابل الغاز والرصاص، ويتجلدن أمام بطش زبانية النظام الساقط، ألهمن الجميع فتحققت الانتفاضة، ونجحت الثورة كما لم تنجح من قبل.
أتوسد يد «هيام» ونتمشى وسط الجموع، نتشارك فرحتنا وأحلامنا ومستقبلنا معا، نساعد كغيرنا من المتطوعين من الأطباء الذين جاءوا ليخدموا الإنسان ، في الخيام الطبية المنتصبة في أرض الاعتصام.
تكاتف الناس وتطوعوا للقيام بكل شيء، جاءت النسوة وتطوعن في طبخ الطعام وتوزيعه على الجموع، تشارك الناس ما لديهم لسد الاحتياجات، وساهم المستطيعون بالمال والغذاء والدواء، أقمنا احتفالاتنا على وقع الموسيقى ودقات طبول النصر، صنعنا الجمال واحتفلنا بالحياة أمام أسوار القيادة، رقصنا وغنينا، ضحكنا جذلا وبكينا فرحا، وامتدت الأيادي المتشابكة تطمئن بعضها بعضا، رسمنا آمالنا على الأسفلت وعلى الحوائط المنتصبة، تشاركنا الحلم الواحد والمصير المشترك، وانطلقت الألسن تلهج بذات الهتاف.
كانت أياما حالمة في ذاكرة شعبنا الجمعية وذاكرة التاريخ.
ولما ضاقوا بنا ذرعا ولم يستطيعوا معنا صبرا، قرروا أن يئدوا حلمنا في مهده.
Página desconocida